الأربعاء، 20 مايو 2009

عودة الذئب 4....






أيها القائد..... غادر الذئب شجونه وشروده والتفت الى جوهر الذى يقود السيارة بجواره وهو يقول باشفاق : مازلت شاردا حزينا كعادتك!!.. أليس هناك نهاية لأحزانك؟ أدار الذئب وجهه ونظر الى الطريق المظلم بصمت فقال جوهر بلهجة اعتذار : عفوا لم أقصد أن أتدخل فيما لا يعنينى ...ولكن ..ولكنك صغير السن وتحمل فوق رأسك هموما لا يتحملها جبل قال الذئب باقتضاب منهيا الحوار الذى كان من طرف واحد: وصلنا الى الموقع ابتلع جوهر ريقه بحرج وأوقف السيارة الصغيرة التى يقودها وفيها الذئب واثنين آخرين من كتيبته وخلفهم ناقلتين كبيرتين ..واحدة تحمل الجنود والثانيه تحمل العدد والآلات والأسلحه والذخيره نزل جوهر من السيارة وهو يقول :لقد درست المنطقه جيدا..هذا الجبل خلفه طريق للإمدادات يصل الى قاعدة عسكرية ..نستطيع اصطيادهم من فوق هذا الجبل وقطع طريق امداداتهم الذئب : حسنا ولكن أريد أولا تمشيطا دقيقا للمنطقة وما حولها . يجب أن نتأكد أنها آمنه تماما انتشر المجاهدون وأخذوا يمسحون المنطقة وهم يحملون أسلحتهم المجهزة والمعدة للإطلاق ثم بدأوا يصعدون الجبل يتقدمهم الذئب وأخذوا يفتشون الجبل تفتيشا دقيقا فلم يتركوا حجرا ولا حفرة الا وفتشوها .. دخل الذئب الى أحد الكهوف وأضاء كشافه القوى وأداره فى أرجاء الكهف الصغير, وشعر من الآثار على الأرض أن هذا الكهف يحمل آثار شخص دخله قبلهم بمدة قليلة شعر بحركة مريبة فقفز بحركة سريعة الى جانب الكهف وأطلق وابلا من النيران ومع الطلقات السريعه التى دوت فى الكهف بصوت يصم الآذان سمع صوت صراخ نسائى يهتف : توقف ..لا تطلق النار. لا تطلق النار. أوقف الطلقات وبدأ يتبين مصدر الصوت بحذر فرأى على ضوء الكشاف فتاة شقراء تخرج من خلف صخرةكبيرة فى جانب الكهف قالت بصوت مذعور وهى تلهث : توقف . أنا صحفية كان المجاهدين قد تجمعوا على صوت طلقات النار أخرجت الفتاة هويتها وهى تتأمل الوجوه المتشحة بالسواد, والعيون التى تنظر اليها فى ترقب وحذر, وانتابها الخوف, لكنها تماسكت أمامهم تفحص الذئب بطاقتها بالكشاف أخذت الصحفية تلهث من الخوف والإنفعال وهى تقول : أنتم مليشيات المقاومة؟ جوهر : نحن المجاهدين ..أهل هذه البلاد تنهدت بعمق وقالت : آه ..أخيرا وجدتكم..كنت أبحث عنكم من مدة طويلة مدت يدها بالسلام نحو الذئب الذى كان أقرب الموجودين اليها وهى تقول : كاترين جوليان صحفية مد الذئب يده نحوها فظنت أنه سيسلم عليها لكنها فوجئت بأنه يرد اليها بطاقتها وسمعته يقول من خلف لثامه الأسود الذى لا يظهر سوى عينيه : وما الذى أتى بصحفيه فى هذا المكان ..ووحدها؟ أصابتها الدهشه من معاملته الجافه ولهجته الخشنة ..لكنها تجاهلت ذلك وهى تقول : أنا فى مهمة صحفية هنا مع فريق من الصحفيين وكنا فى القاعدة العسكرية الروسية القريبة من هنا لعمل لقاءات وأحاديث مع الجنود ابتسمت وهى تكمل : لكننى هربت من المعسكر الروسى وسرت حتى وصلت الى هنا وعندما هبط الليل اختبأت فى هذا الكهف الذئب بخشونه : ولم فعلت ذلك؟ قالت بسرعه : لأننى كنت أبحث عنكم..الجميع يقابل الجنود الروس ويتتبع أخبارهم وينشرها .وأما المليشيات .فلا أحد قابلهم أو تحدث معهم أو حتى سمع وجهة نظرهم وأنا أريد أن أحظى بهذا السبق التفت الذئب مغادرا الكهف بغضب دون أن يتكلم ونزل من الجبل بسرعة وخلفه جوهرالذى سأله : ماذا سنفعل بها أيها القائد؟ قال بضيق : سأصطحبها لأقرب قرية بها ممثلى اللجان الدولية هتف جوهر : أتعلم كم تبعد عن هنا؟.المخاطرة كبيرة ..الأفضل أن نأخذها لأقرب معسكر للمجاهدين وهم يتولون اعادتها الذئب بتجهم : لو فعلنا ذلك لأمتلئت صحف الغد بوصفنا بكلمات مثل الإرهابيين الخاطفين, ولتحولت قصتها لأفلام تبكى العالم عن المتوحشين الذين اختطفوا الصحفية البريئة جوهر : لكنها عندما تعود بالتأكيد ستوضح لهم الأمر وتنشره الذئب : قد لا يحالفنا الحظ لهذه الدرجة وتظل حيةحتى تصل الى بلادها وتنشر الحقيقة ..لذلك يجب أن أعيدها الآن وفورا جوهر : ولكن الطريق طويل وخطروقد يرصدوا السيارة وعندها... الذئب : على الأقل عندها لن تكون فى معسكراتنا ولن يستطيع أحد أن يقول أننا اختطفناها أو عذبناها وصل الى مكان السيارات وقفز الى السيارة الصغيرة وقال بلهجة آمره : أحضرها الى هنا ..سأقوم باعادتها بنفسى واستمروا أنتم فى تنفيذ الخطة, تعلم موعد ومكان اللقاء مع مجموعة القائد سليم يجب أن تنجز الخطة بدقة شديدة ..هل فهمت هتف جوهر بانفعال : ولكن ذلك خطر كبير على حياتك ..كما أنك قائدنا ..فلتختار أحد آخر لإصطحابها قال الذئب بخشونة : نفذ الأوامر التفت جوهر باستسلام لتنفيذ الأمر لكنه توقف عندما سمع الذئب يقول : جوهر .. التفت اليه فقال الذئب بتأكيد : أنت القائد من الآن صرخ جوهر بدهشه عارمه : لا ..مستحيل أنا...!!! قاطعه الذئب قائلا بثقه : أعتمد عليك ابتلع جوهر ريقه بصمت وعجب ولم يدرى ما يقول وصلت كاترين الى السيارة التى جلس الذئب خلف عجلة قيادتها وقال لها باقتضاب : اركبى فسألته بدهشه : الى أين؟ قال ووجهه الى الطريق : سآخذك لأقرب منطقة فيها ممثلى اللجان الدولية والصليب الأحمر هتفت كاترين باعتراض : ولكنى لم أتم مهمتى هنا بعد زفر بضيق وقال بصوت أصابها بالرعب : اركبى ركبت بسرعة وانطلق الذئب بالسيارة وخلفه عيون المجاهدين اقترب أحمد من جوهر وسأله : لماذا لم يأمر أحد منا باعادتها؟ هل يخاف علينا الفتنه ؟ قال جوهر وعينيه على السيارة التى ابتعدت بمسافه كبيرة: أظنه يخشى أن يتحدث أحد منا معها فتستطيع استدراجه للبوح بأسرار محظورة تنهد أحمد بحراره وقال : وهل تظنه يستطيع أن يصمد أمامها؟ جوهر بتهكم : هل اختل عقلك؟؟ألا تعلم من هذا؟ انه الذئب.. كل ما أرجوه هو ألا يفقدها عقلها حتى تصل سالمة الى القريه التفت خلفه ينظر الى الجبل وزفر بقوة قائلا : هيا فلدينا عمل يجب أن ننجزه

لم ينطق الذئب بكلمه واحده منذ أن انطلقا بالسيارة وأخذت كاترين تتطلع اليه من حين لآخر تنتظر أن يسألها أو حتى ينظر اليها لكنه لم يفعل فقالت :
أظنك تتساءل لماذا لم أخاف منكم برغم ما يشيعه الروس عنكم من أنكم ارهابيين متوحشين آكلي لحوم البشر .. وانكم تتلذذون بتعذيب وارهاب الآخرين؟
انتظرت أن يرد . لكنه لم يلتفت حتى اليها
فقالت تستحثه : أنت تتعجب..تتعجب أليس كذلك؟
تجاوزت صمته وقالت وكأنه رد عليها : لأن من عادتى أن أقرأ كل ما كتب عن أى موضوع أريد أن أكتب عنه
وأشد ما أثار عجبى ما كتبه عنكم سولجنستين وكذلك ما كتبه المؤرخ الأوروبي ("روبرت كونكوست" في كتاب "قتلة الأمم"ألا تريد أن تعرف ما قاله عنكم؟
أكملت عندما لم يرد : كتب "لقد كانوا أسودا ذوي شهامة عسكرية تجلت في معاملتهم للأسرى والجرحى من الأعداء ولا غرو في ذلك، فقد كان القادة هم العلماء الذين يقاتلون دفاعا عن أرضهم ودينهم حتى آخر جندي وآخر سيف". )*
أليس غريبا أن يكون هذا هو رأى أعداءكم فيكم..؟
لهذا سعيت لمقابلتكم دون خوف..كنت أريد أن أتأكد من مدى صدق هذه العبارة
صمتت قليلا لتفسح له المجال ليتكلم ..لكنه لم يفعل ..زفرت بغيظ وقالت : الجو هادئ تماما على عكس ما كنت أتوقع
استفزها بشده صمته الغريب . فنظرت اليه بدقه برغم الظلام الذى لم يخفف منه سوى ضوء القمر وانعكاس مصابيح السياره القوية فوقعت عيناها على شئ يلمع فى يده, دققت النظر فوجدته خاتم زواج فى بنصره الأيسر فسألته بدهشه : متزوج؟ !!..عجبا رغم أن سنك صغير..أتساءل من هى المرأه التى تستطيع أن تتحمل حياة كتلك التى تحياها ؟
لم تستطع أن ترى ارتعاشة عضلات وجهه التى توارت خلف لثامه الأسود ..لكن صمته أصابها بالغيظ الشديد فقالت بضيق لا أفهم كيف يمكن لإمرأه طبيعيه أن تقبل بالزواج من رجل مثلك لديه كل هذه القدره على الصمت؟
غمرته أمواج من الحزن من جديد, كان رأسه يجيش بالذكريات ويملأ أذنيه صوت ضحكات قادمه من بعيد وهى تقترب وتقترب ويعقبها صوت جميل حبيب اليه أشعل الحنين فى قلبه وهو يهتف بحب: أنت كما أنت لن تتغير أبدا. منذ أول يوم فى زواجنا وأنت تسألنى نفس السؤال
عمر بحب : وحتى الآن لم تجيبينى ...
أخبرينى بصدق ..كيف لفتاة مثلك أن تقبل بالزواج ممن هو مثلى؟
ابتسمت وهى تملأ عينيها بملامح وجهه : ربما أرى فيك ما لا يستطيع الآخرون رؤيته
عمر ساخرا : اذن فهل أصبح كل الناس من العميان؟
ضحكت وقالت : لا يا حبيبى ولكنهم لا يملكون قلبى ولا عينى ليروك بها
تنهد بعمق وقال بشرود : كم كان خالى رجلا عظيما - رحمه الله- ..كان يعطى بلا حدود .. منحنى أغلى ما لديه وأخشى ألا أكون جديرا به
اتسعت ابتسامتها قائلة : رأى فيك ما رأيته أنا
تنهدت بحراره وهى تكمل : ولكن بداخلك طفل عنيد ..يخشى أن يصدق الحقيقه
أتعلم أنك تشبهه كثيرا, أقصد فى طريقة التفكير والتصرفات
يبدو أن الفترة التى قضيتها بصحبته جعلتك تتوحد معه وتأخذ منه أشياء كثيرة
عمر بحب : وأكثر ما أخذت منه هو حبه الكبير لك
أيها القائد ..هل تسمعنى؟
أفاق من شروده على صراخ كاترين المغتاظ فالتفت اليها بدهشه قالت بغيظ شديد : كنت قد بدأت أظن أنك فقدت السمع كما فقدت الكلام فمنذ أن انطلقنا بالسياره من ساعه ونصف وانت لم تفتح فمك أبدا.. لاأدرى من أين لك بكل هذه القدرة الجبارة على الصمت
عقد حاجبيه و أنصت بإهتمام كبير
أوقف السياره فجأه فارتج جسدها بعنف وهتفت : ماذا حدث؟

قال بتوتر : لقد رصدوا السياره ..انزلى بسرعه
نزلت من السياره وانطلقت تجرى خلفه بسرعه كبيره عندما وصل الى مسامعها صوت هدير طائرة مروحيه وتساءلت فى نفسها ..كيف استطاع أن يلاحظ صوت المروحيه من هذا البعد؟
ظلا يجريان حتى وصلا الى منطقه جبليه واختبئا خلف الصخور
نظر الذئب من مكمنه فوجد ضوء المروحيه القوى مسلط على السياره ثم أخذت المروحيه تجول فى المنطقه بكشافاتها القويه بحثا عمن كانوا فى السياره
بدأ الذئب ينظر حوله يبحث عن مكان أكثر أمنا ثم قال لكاترين : اتبعينى
سارت خلفه بهدوء منحنية الرأس وهى تخشى أن يعلو صوت دقات قلبها المرتعب ويصل الى مطارديهما..حتى وصلا الى ممر ضيق فى الجبل فسألته كاترين بخوف : ماذا سيفعلون بنا ان وجدونا؟
قال بثقه : ان شاء الله لن يجدونا
قالت بقلق : لماذا يطاردوننا؟ وكيف علموا بموقع السيارة
قال بهدوء غريب وبصوت يشع بالفخر والثقة : لا يطاردوننا نحن,
لاشك أن جوهر نجح فى مهمته, وأثار كل الكلاب المسعورة, فخرجت تبحث عن أى فريسة تنفث فيها نيران انتقامها وغلها
قالت برعب : أتمنى ألا نكون نحن الفريسة
وجهت المروحيه بحثها الى الناحيه الأخرى من الطريق حيث ترك السياره على الجانب الآخر للطريق وانطلق يجرى فى الإتجاه العكسى كنوع من التمويه
وبعد أن قامت بعدة حركات دائرية, ابتعدت لتبحث فى مكان آخر
وعندما اطمئن لإبتعادها, خرج من مكانه وبدأ بعبور الممر مسرعا ولكن بحذر وكاترين خلفه حتى وصلا بعد مدة طويلة الى الجانب الآخر من الجبل
ألقت كاترين بجسدها المنهك على الأرض تستريح من عناء عبور الممر الغير ممهد والملئ بالصخور وقالت وهى تلهث بعد أن ابتعدا عن المروحية : والآن ..ماذا سنفعل؟
قال باقتضاب : سنمشى
هتفت بدهشه : ماذا؟ نمشى؟ أكاد أموت تعبا
كانت عيناه تجولان فى المكان وهو يقول : المكان هنا غير آمن, وقد يعودون من جديد ..لابد أن نرحل فورا
مدت يدها اليه وكأنما تطلب منه دون كلام مساعدتها على النهوض ولكنه تجاهل يدها واستدار ومضى فى طريقه بصمت وكاترين خلفه تترنح من التعب وتكاد تنفجر غيظا من تصرفاته.
بدأ الفجر يغشى الليل معلنا مولد يوم جديد, عندما ارتمت كاترين على الأرض لتلتقط أنفاسها من فرط السير على أرض جبلية غير ممهدة, وعندما رفعت عينيها اليه, غمرتها الدهشة عندما رأته يوليها ظهره ويعيش مع صلاته ،زفرت بقوة, وهزت برأسها فى عجب وهى تتساءل فى نفسها : أى قوة يمتلك هذا الرجل؟ وأى سكينة تهبط عليه فى تلك اللحظات الحرجه, وتجعله يصلى بكل هذا الخشوع برغم الخطر المحدق بنا؟

أنهى صلاته, وعاد يسير فى طريقه, ونهضت باستسلام صامت تتبعه بعد أن أدركت أن أى اعتراض تبديه ليس له جدوى أمام شخصيته القوية الآمرة ،سارا لمدة طويلة, حتى صعدا الى جبل قصير ثم بدءا فى النزول من الجانب الآخر مع أول خيوط الشمس, ألقت بعينيها أسفل الجبل وتنهدت وهى تقول بسعاده كبيرة : أخيرا, قرية هناك, سنأكل ونرتاح قال بهدوء وهو ينظر نحو القرية البعيدة : لاتتعلقى بالأمل كثيرا حتى لا تصابى بصدمة التفتت اليه بحده وسألته : ماذا تقصد؟ لم أفهم كلامك قال باقتضاب : ستفهمين عندما نصل الى هناك وعندما وصلا الى هناك أدركت الصدمة التى كان يتحدث عنها, بل عايشتها بكل مشاعرها






كان الدمار الذى لحق بالقريه مروعا بحق ..سارت داخل القرية تتأمل البيوت المهدمة والمحال والسيارات المحطمة وهى فى غاية الذهول حتى أتاها صوته الغاضب : (هكذا هم فى حروبنا معهم عندما يهاجمون الشيشان فى كل مرة يستخدمون فى تقدمهم سياسة الأرض المحروقة فلا يتركوا أخضرا ولا يابس ..حتى المناطق التى أخليناها ..لم يتقدموا فيها حتى أحرقوها تماما بكل ما أوتوا من قوة تحسبا وخوفا من عودتنا)*
قالت كاترين بألم وهى تنظر حولها وتتأمل الدمار بذهول : مستحيل ..انهم وحوش ..قتلة ..يجب أن يحاكموا أمام العالم كمجرمى حرب, تلك القرية الامنة , ما ذنب سكانها من المدنيين الأبرياء؟
زفر عمر زفرة حارقة من قلبه المشتعل : يرون الشعب الشيشاني كله شعباً إرهابياً حتى الطفل الصغير ، ولذا فهم لا يفرقون بين المجاهدين وبين المدنيين من الشيوخ والنساء والأطفال ، فقذائف الطائرات والصواريخ بعيدة المدى تستهدف المدنيين حتى تجليهم عن أرضهم،وقد حصل منجراء هذا القصف مذابح مروعة للمدنيين راح ضحيتها الكثير من الشيوخ والنساء والأطفال
ماذا ستفعلين لو رأيت بعينيك المذابح المروعة التى تبكيلها العيون وتتفطر لها القلوب .
دفن المه بين ضلوعه وقال يتعجلها : هيا لا وقت لدينا, علينا أن نغادر بسرعه
لم تستمع اليه وأخرجت الكاميرا من حقيبتها وبدأت تلتقط صورا كثيره لمناظر الدمار الرهيب الذى حل بالقرية
تركها الذئب تلتقط ما تريده من صور ولم يعترض بل أخذ يدور فى المكان ليتأكد أنه آمن
توقفت كاترين طويلا أمام احد البيوت المحترقه وأخذت تتأمل أحد جدرانه المهدمة, والتى كتب عليه بخط كبير
(مرحبا بكم فى الجحيم) "
كتبت هذه العبارات بالفعل على جدران المنازل فى جروزنى أثناء الحرب"
تساءلت كاترين بدهشه : كيف تحمل المدنيين كل تلك الأهوال والمآسى؟
رد عليها دون أن يلتفت وظهر الحزن عميقا فى صوته : من أجل هذا غادر المجاهدون الى الجبال
قالت والدموع فى عينيها وصوتها يكاد يختنق من البكاء : ولكن لم يفعلون ذلك؟
لم يرد عليها ..كان عقله فى مكان آخر, وروحه تحلق بعيدا هناك
..... عمر ..أرى فى عينيك خوف وقلق ابتسم عمر وقال : ياربنا ..كيف أستطيع أن أخفى عنك شيئا؟ لديك كاشف للأسرار أعجز تماما عن خداعه زهره بحنان : هيا . اعترف ..ماذا يقلقك الآن؟ اختفت ابتسامته وقال بأسف : أصدرت القياده أوامرها لنا بالإنسحاب من العاصمه وتركها للروس, لم يعد أهل البلاد المدنيين بقادرين على تحمل هذا الجحيم المستعر لقد صبروا معنا طوال اشهر, فقدوا فيها كل شئ, وبقوا صامدين تحت الحصار فىأقسى ظروف يمكن أن يعيشها انسان, والآن, علينا الخروج حتى لا تفنى جروزنى... تنهد بأسى وهو يقول : لأشد ما يؤلمنى هو أننى سأضطر لتركك هنا أنت وأمك وأخويك وطفلتنا والرحيل مع المجاهدين ابتسمت محاوله التخفيف عنه وقالت محاوله تغيير مجرى الحديث : مازلت مصرا أنها طفله وليس طفل !! تعود لعمر ابتسامته وهو يقول : طفله أو طفل ..المهم أن يشبهك زهره باصرار : ولكنى أريد ولدا يشبهك أنت ينتفض عمربطريقه طفوليه ويهتف : يفتح الله ..هارجع فى البيعه مش كفايه واحد منى فى العيلة؟ ضحكت زهره بشده وقالت : لم تنسى أبدا اللهجه المصريه ..مازال يجرى فى دمائك حبك لمصر ! ابتسم بحنين كبير وظهر فى وجهه عاطفه جياشه وهو يقول : وكيف أنسى أجمل سنوات عمرى ..ملاعب الطفوله والصبا ومراتع الفتوه .. أمى فتحية وأبويا بسيونى, قهوة عم جاد . القلعه . مسجد السلطان حسن ..بوابة المتولى.. الكره الشراب والطيارات الورق وهي مالية السما زى النجوم, وشمس الأصيل ونسيم العصارى ونهر النيل وريحة الورد البلدى .. بحر اسكندريه وهواه أغمض عينيه واستنشق الهواء بقوة وكأنما يستشعر طعم الهواء فى خياله وقال : كيف أنسى الدفء بلا حدود؟ ابتسمت زهره وقالت : لقد أحببت مصر دون أن أراها .. تصفها كأجمل ما تكون.. حقا أثرت شوقى لرؤياها التفت اليها وقال بسعاده : حقا؟ هزت رأسها بالموافقه فأكمل بحماس : أعدك عندما أعود . ويخرج الروس من الشيشان . سأعمل كل جهدى لنزور مصر معا ..اتفقنا؟ هزت رأسها موافقه بسعاده, فجأة فقد ابتسامته وشرد بعيدا وقال : هذا ان عدت هتفت بقوه : ستعود ان شاء الله ...أعلم أنك ستعود .فيجب أن يعود الذئب مهما طال الزمن وقست الظروف عدت لشرودك من جديد ألا تسمعنى اخاطبك؟ أدار عمر رأسه ببطء تجاه كاترين التى أصابتها الدهشة من منظر عينيه الحزينتين الخاويتين وكأنما ينظر الى الماضى لااليها قالت بتعاطف كبير: كان الأمر بشعا..أليس كذلك؟ أكملت بأسف دون انتظار رده : وجروزنى هى دائما الأكثر معاناة عجز عمر عن اخفاء الألم الممزوج بالغضب فى صوته وهو يقول : شهور تحت القصف الرهيب والحصار الحديدي ثلاثة آلاف بالأسلحةالخفيفة, أكبرها الهاون 120مم، وقليل من القذائف التي نغنمها من الروس مقابلمائة ألف جندي أو يزيد تدعمهم المدفعية والطائرات جرّب الروس فيها كل الأسلحةالمحرمة دوليا, القديمة والجديدة الكيماوية منها والعنقودية والفراغية دمرواالمدينة تماماً تقريباً وحتى الطرقات لدرجة أنهم عندما دخلوها لم تستطع الدبابات أن تمر فيها.





تنهد بمرارة كبيرة وقال : هل شاهدت يوما قنابل فراغية 9طن ؟
انها تقسم المبنى عشرة طوابق إلى قسمين حتى الملجأ السفلي، قتل الكثير والكثير من المجاهدين والسكان العزل تحت الهدم ، ورغم هذا كان تقدم الروس في المدينة بطيئاً جداً كل يوم وبعد معارك عنيفة فى مائة متر فقط ، يسوون البيوت بالأرض فيتراجع المجاهدون إلى المربع التالي بعد خسائر فادحة في الروس حتى المستشفيات التى تحت الأرض قصفها الروس بشدة وقلّت المؤن والذخيرة ولم يبق في المدينة مدينة ، حتى أن الروس عندما دخلوها بعد خروجنا لم يجدوا فيها مبنىً سليماً فقرروا أن يجعلوا مدينة "جود رميس" العاصمة المؤقتة ، كاترين بتفهم : ولهذا انسحبتم متسللين خارج العاصمة التفت اليها بحدة وقال بغضب : لم نتسلل ابدا, أهذا هو ما يسوقه اعلامهم وترمى اليه صحافتهم؟ لقد اجتمع القادة وتشاورا وقرروا الخروج من جروزني بكامل أسلحتهم في اتجاه ممر"يرمولوفكا" المعروف والمحاط بالروس وتقدم القادة في البداية يفتحون الطريق بأنفسهم وقد قتل وجرح معظمهم لكثرة الألغام والقصف المباشر ولم ينج منهم إلا قليل واستمرت القافلة إلى أن وصلت إلى الجبال الجنوبية ورغم الجراح والمعاناة لم يجرؤ الروس على المواجهة المباشرة كاترين بتأثر شديد : وماذا عن المدنيين؟ ماذا فعل بهم الروس عندما دخلوا المدينة ؟











عندما ترك عمر جروزنى لم يكن يتوقع ابدا أنه سيعود اليها بهذه السرعه وبهذه الطريقة وقبل أن يخرج الروس منها
علم المجاهدون أن القوات الروسيه التى احتلت جروزنى قد اشترت بعض الخونه والعملاء وأغرتهم بالمال للإبلاغ عن أى معلومات عن المجاهدين وأهليهم وأماكن بيوته
عندها جن جنونه وقرر العودة الى جروزنى ليلا ليرى زهره مهما كان الثمن ومهما كانت المجازفه وبرغم اعتراض القاده جميعا
الا أن أحد منهم لم يستطع الوقوف أمام اصراره الرهيب على العوده ليطمئن على زوجته فسمحوا له مضطرين بالعوده الى جروزنى ومعه اثنين من المجاهدين لمساعدته على التسلل ليلا الى هناك
وبالفعل استطاع عمر التسلل الى جروزنى والوصول الى بيته الذى تهدم نصفه تقريبا.
دخل الى البيت دون أن يشعر به أحد فوجد البيت مظلم تماما
أخذ يدور فى أنحاء البيت بهدوء حتى وصل الى حجرة المعيشه ..وهناك وجد زهره تجلس فى مكانها المفضل بجوار المكتبه الكبيره وهى تقرأ القرآن فى ضوء شمعه بجوارها وبقية الحجره غارقه فى الظلام
أجفلت زهره متعوذه عندما فوجئت بشبح أسود يقف فى الظلام ..لكنها عرفته بسرعه وقالت بدهشه وهى تحتضنه بحب وشوق: عمر !!
كيف أتيت الى هنا, يجب أن ترحل عن جروزنى فأنت فى خطر محقق
خلع عمر لثامه الأسود عن وجهه وقال بلهفه وهو يتمسك بها بقوة وكأنما يخشى أن تبتعد عنه : لا يهمنى أى شئ..لقد أتيت من أجلك ....زهره ..يجب أن ترحلى عن هنا فهناك خونه فى جروزنى يرشدون الروس الى بيوت المجاهدين فى مقابل المال ..يجب أن ترحلى قبل أن يخبروا الروس عنكى
زهره : لا يمكننى الرحيل ..أنت تعلم أننى طبيبه والمستشفى بحاجه الى, لدينا نقص فظيع فى الأطباء وأعداد الجرحى كبير,لا يمكننى الرحيل
قال باصرار : اسمعينى .لو أبلغوا عنكى فستفقد المستشفى طبيبه أخرى الى الأبد, لا يمكنك أن.......
ابعدت رأسها عن كتفه لتنظر الى عينيه وتتأمل ملامحه على ضوء الشمعة وهى تهتف بأسى : أنت لم تر ماوصل اليه الحال فى المستشفى
اننا نجرى العمليات الجراحية على ضوء المصابيح اليدوية ولمبات الغاز, والجرحى المساكين يقاسون البرد الشديد بالإضافة لآلامهم وجراحاتهم بعد انقطاع الغاز بسبب الحرب ،
الطعام غيرموجود حتى للأطباء والعاملين في المستشفى وان وجد فهو لا يكفي لتغذية المريض ، فالجرحى يتكفلون شراءه من خارج المستشفى بالإضافة لشراء الدواء
كيف اشرح لك؟
النقص فظيع فى الدواء والأدوات الجراحية من غياب القفازات الجراحية التي يستخدمها الجراح في عمله ، وعدم وجود الشاش الذي لايمكن إجراء أي عملية ، أو حتى ضماد بسيط بدونه ، المريض الذي يريد أن يغير ضماد جرحه يأتى حاملاً معه الضماد والمطهر والدواء
عمر..لا يمكننى المغادرة ابدا. فهم بحاجة ماسة الىّ
الوضع في المستشفيات أشبه بصراع بين طرفين أولهما صواريخ الروس وقنابلهم ،وثانيهما الطعام والدواء والكادر الطبي المحدود
وإذا استمر هذا العدوان الوحشي وبقيت حالة العجز في المستشفيات فإن الشعب بأكمله معرض للإبادة الجماعية لا محالة
تأمل عمر وجهها بحب وفخر كبير وهمس قائلا : لهذا بقيت في المستشفي اكثر من ستين يوما ليل نهار مع الجرحى تحت القصف بالقنابل الفراغية والعميقة التي تزلزل الأسس
وحتى عندما نقل مكان المستشفي ثلاث مرات لم تتخلفى عنه ابدا
أقدر تماما كل ما تفعلينه يا حبيبتى
ولكن الأمر مختلف تماما هذه المرة, فحيـ.....
لم يتم عمر الكلمة, فجأة صمت تماما وعقد حاجبيه بشدة وأصغى سمعه باهتمام ثم التفت اليها بحده وأمسك ذراعيها وقال بجزع :
انهم قادمون

لم يتم عمر الكلمة, فجأة صمت تماما وعقد حاجبيه بشدة وأصغى سمعه باهتمام ثم التفت اليها بحده وأمسك ذراعيها وقال بجزع :
انهم قادمون .أسمع صوت آلياتهم
أنصتت باهتمام وظهر فى وجهها الخوف وتشبثت به وهى تقول : انهم يقتربون, عمر . يجب أن ترحل فورا قبل أن يجدوك
ألقى عمر نظرة من النافذة,و عبر الظلام ومن خلف الستائر المسدلة, شاهد العربات المدرعة وهى تسير آمنة ببطء مستفز وكأنهم فى نزهة, التفت اليها وقال بقلق : توقفوا هنا

تشبث بسلاحه بقوة وأسند ظهره للجدار بجوار الباب وبيده الأخرى أمسك بيد زهره وتشابكت أصابعهما بقوة وبدأ الرعب يدب فى قلبه ..وبرغم البرودة الشديدة وانقطاع الكهرباء وتعطل أجهزة التكييف بدأت حبات العرق تتراص على جبينه وبدأت صورة قديمة مرعبة تقتحم عقله ..صورة لم يراها بعينيه لكنه رآها بخياله صورة أمه وأبيه واخوته الذين ذبحوا فى بيتهم بيد الإحتلال... ولم يستطع أن يمنع الخوف عن قلبه عندما سمع وقع أقدام الجنود الروس يقترب بسرعة وضغط يد زهرة فى قوه ونظر فى عينيها وكأنه يستمد منهما الأمان وتسارعت دقات قلبه وصوت أقدام الجنود يقترب ويقترب ....................................................... احذرى ......
صرخ الذئب وهو يدفع كاترين بقسوه فسقطت على الأرض بعنف وهى تصرخ من الألم
نهضت ببطء متأوهه وهى تنظر اليه بغضب وتصرخ قائله : لماذا فعلت ذلك؟
أشار الى الأرض وهو يقول : قذائف فقاس
نظرت حيث يشير وقالت بدهشه : ماذا؟ ....لم أفهم
قال بهدوء : فقاس ألغام بشرية مضادة للأفراد وهى كثيرة الشظايا وصغيرة بحيث لا تلاحظ بسهوله ...يلغمون بها طريق القرى لتنفجر فى طريق المهاجرين الذين سيمرون من على هذا الطريق
تأملت القذيفة بدهشة وخوف وابتلعت ريقها ثم نظرت اليه قائله بامتنان : كدت أموت ...لقد أنقذت حياتى
قال بلامبالاة: هذا فى أسوأ الظروف ..ولكن فى الغالب كنت ستفقدين ساقا أو يدا ..انهم يتقنون صنعها بحيث لا تقتل مباشرة فهم يريدون جعل موتنا بطيئا
نظرت اليه بذهول .لكنه تركها تكمل عملها وأخذ يدور فى أرجاء القرية
انشغلت كاترين بالتقاط الصور وأخذها الحماس الشديد وحبها لعملها, لكنها استفاقت فجأة لتجد نفسها وحيدة فى المكان, أخذت تتلفت حولها باحثة عن الذئب, لكنها لم تجده
بدأ الخوف يزحف بقوة الى قلبها, لكنها تماسكت وأخذت تبحث عنه فى المناطق القريبة وهى تنادى : أيها القائد, أين أنت؟
هل انتهيت؟
أجفلت بشدة وهى تلتفت الى مصدر الصوت, رأته وهو يخرج من بيت قريب ويقترب منها
أخذت تلهث وعلامات الخوف تتبدل فى ملامحها الى الغضب وهى تهتف : الى أين ذهبت؟
قال بطريقته المباشرة المختصرة, والتى بدأت فى التأقلم معها : كنت أبحث عن سيارة
تأملته مليا بدهشة, كان قد بدل ملابسه العسكرية بأخرى مدنية,
لكن ما أثار دهشتها حقا هو ذلك الكم من الوسامة التى يحملها وجهه بعد أن نزع لثامه الأسود
هتفت بانبهار : وااااااو ..أ كل الشيشانيين بتلك الوسامة؟
تجاهل نظراتها تماما ولم يرد على عبارتها, وتركها وأخذ يبحث فى أرجاء المكان عن سيارة
تبعته بصمت وقد بدأ الهدوء يعود اليها, وغمرتها الطمأنينة عوضا عن الحنق الشديد من طريقته الجافة فى التعامل معها
استطاع أخيرا العثور على سيارة سليمة فى احدى الجراجات لمنزل تهدم أغلبه
سألته كاترين بدهشه: سياره سليمه وسط كل هذا الدمار ؟ !!
علق قائلا بسخرية : يبدوا أنهم كانوا متعجلين فلم ينجزوا عملهم بدقه
نجح الذئب فى جعل السيارة تدور بمهارة بدون المفاتيح (التى أضناهما البحث عنها) عن طريق سلكى التشغيل فى مقدمة السيارة
قالت كاترين وهى تبتسم : أنت ماهر فى ذلك
قال بسخريه : فعلتها مرات عديده فيما مضى
انطلق بالسيارة مغادرا القرية التى أصبحت خرابا
وفى الطريق أفصحت له عن السؤال الذى يدور فى رأسها : لم بدلت ملابسك العسكرية؟
رد مباشرة : علينا أن نكون أكثر حرصا فى تحركاتنا, فلا يمكن أن نتوقع ما الذى يمكن ان نقابله فى طريقنا
قالت بخبث وابتسامة ماكرة تنبت على شفتيها : أتخشى الروس؟
قال بجدية : أخشى ألا يصل حملى الثقيل الى منطقة آمنة
أشاحت بوجهها بعيدا بغضب وهى تشعر باستياء شديد لتلك الصفة التى أطلقها عليها
زفرت بضيق شديد, وقالت بسخرية : أعلم الآن لم يسميكم الروس
[ الشعب الذي لا يرهب الموت ].
مرت فترة طويلة من الصمت والسيارة تقطع الأرض فى طريقها, حتى قالت كاترين أخيرا : أتعلم لم كنت أبحث عنكم؟
عاد لصمته من جديد فقالت بخيبة أمل : لا تريد أن تعرف , ولكنى سأخبرك على الرغم من ذلك ....
كنت أريد أن أعرف لماذا تقومون بتفجيرات وعمليات ارهابيه داخل المدن الروسيه؟
أدارت وجهها للطريق من جديد وتنهدت بضيق وهى تعلم أنها لن تتلقى اجابه , وقالت بيأس: عدت لصمتك من جديد...
فوجئت بصوته يصل الى أذنها وهو يقول : وهل تصدقينى ان تكلمت؟
التفتت اليه بدهشه وقررت الا تضيع الفرصه وتجعله يتكلم فقالت له : لو لم أكن مستعده لأن أصدقك ما كنت سألتك
قال : التفجيرات التى حدثت فى المدن الروسيه وخاصة للمدنيين ليس لنا يد فيها...فنحن لا نضرب الا قواعد عسكريه
صمتت كاترين ولم ترد فقال : كنت أعلم أنك لن تصدقينى
قالت بصدق : على العكس, أنا أصدقك أكثر مما تتوقع..
لقد حصلت على معلومات مؤكده تنفى أن لكم يدا فى تلك التفجيرات ومن مصدر لا يخضع لأى شك ...
من ضابط روسى فى فرقة (قرؤوا)
عقد حاجبيه بشدة ونظر اليها مندهشا لكنها أكملت بجديه : لقد أخبرنى بلسانه أن هذه التفجيرات تم تنفيذها من قبل مجموعة

وخاصة من ( F.S.P) (المخابرات الروسية) مجموعة من فرقة قرؤوا بإيعاذ من رئيس الوزراء لتغيير الرأى العام الروسى ليكون ضد شعب الشيشان ..وحتى يكون لديهم المبرر الكافى لخوض تلك الحرب واحتلال الشيشان وكذلك ليرتفع اسم رئيس الوزراء عاليا فى صفوف شعبه

هل هذا هو ماكنت ستخبرنى به؟ نظر اليها بدهشة ثم سألها فجأه : كيف استطعت أن تنتزعى منه كل تلك المعلومات التى تعتبر أسرارا عسكريه شديدة السرية قالت بغرور وهى سعيدة أنها استطاعت جذبه للحديث : كل صحفى وله طرقه الخاصة تغير وجهه ومط شفتيه ثم أدار وجهه للطريق وعاد لصمته لم تعجبها النظرة التى رماها بها فقالت بانفعال وكأنما تحاول الدفاع عن نفسها : لقد اعترف بكل ذلك وهو تحت تأثير الخمر ..وبعد أن أخذت منه كل المعلومات التى اريدها تركته مسجى على الأرض بعد تناوله جرعة كبيرة من الدواء المنوم الذى أحمله دائما فى حقيبتى , وغادرت المعسكر سألته مرة أخرى : أخبرنى ..كيف تحصلون على الأسلحه رغم أنكم ..تعتبرون دولة فقيرة؟ رد مباشرة : أغلبها أسلحه روسيه نغنمها من معاركنا التى ننتصر فيها سألته بدهشه : وهل تنتصرون؟ أردفت بسرعه : عفوا لكن مصادر الأخبار تقول .. قاطعها قائلا : من مصلحة الروس أن يهونوا من شأن انتصاراتنا ويخفوا خسائرهم حتى لا يثور الشعب ضدهم أردف بلهجة تمتلئ بالسخرية : يظن الرئيس الروسى أنه اللاعب الوحيد الذي بإمكانه أن يصرع المجاهدين الشيشان , وأن يكسر أنف الشعب الشيشانى, فبكل قسوة وعنفوان لاعب الجودو عمل على قمع الشعب الشيشاني, ونفذ بحقه حملته البشعة لـ"التطهير العرقي" حتى قتل من الشعب الصغير الذي يجاوز المليون بقليل أكثر من مائة وخمسين ألفا وشرد وهجر ما بين 200 و500 ألف مسلم شيشاني بحسب المصادر القوقازية الرسمية وغير الرسمية (أي نحو نصف عدد سكان الجمهورية على حد قول بعض المصادرالإنسانية) أكثر من نصف الشعب لا يجدون مأوى لهم , ويعانون من قلة الطعام وأحوال الطقس الشديدة وندرة الرعاية الصحية. ومع كل هذا الدمار, ظن أن الأمور تسير دوما لصالحه لكن الرياح لم تأت بما يشتهيه البحار الروسي , فالذى حدث خلال الأشهر القليلة الماضية أن كثرة رماح الروسلم تستطع أن تحن جباهنا, لاشك أن بعض أخبارالعمليات الفدائية الضخمة التى قمنا بها خلال الأشهر القليلةالماضية قد وصلتكم, على الرغم من أن الحكومة الروسية تعمد دائما الى اخفاء أرقام خسائرها الحقيقية قالت باسمة : لا أعتقد أن الروس بامكانهم اخفاء كل تلك الأعداد من القتلى من جنودهم, خاصة عندما يصل الأمر الى أرقام ذات صفرين وثلاثة حسب إحصاءات جمعية أمهات الجنود الروس والمصادر الرسمية الروسية قال ساخرا : ولكنهم لا يزالون يعتبرون أن هذا ثمن بخس لتطويع الجمهورية المسلمة الأبية الغنية بالنفط عقدت حاجبيها قائلة : قد يطول الأمر لسنوات حتى تستطيعوا اقناعهم بعكس ذلك قال بثقة : نحن أيضا لسنا متعجلين, إن طريق الإستقلال لايزال طويلا وهذا ما كان يدركه تماما الرئيس الشيشاني الراحل جوهر دوداييف عندما قال : "إن المعركة الحالية مع روسيا ستستمر50 سنة على الأقل لتحقيق الاستقلال الكامل"ورغم كل مكابرتها فلقد بدأت روسيا طريق الاندحار في الشيشان وهي في النهاية ستذعن, فسخونة معارك الصيف القادم ستذيب جليد الثلج الروسي كان صوته العميق يحمل الكثير وهو يقول بثقة لا حدود لها : على العالم ان يدرك -وروسيا من قبلهم- أن القضية الشيشانية لا يمكن للروس "حلها"عسكريا مهما فعلوا ---------------------------------------------

تنفس عمر الصعداء عندما عبر الجنود من أمام باب البيت ولم يتوقفوا .. بل استمروا فى سيرهم وعندما ابتعدت أصواتهم
خارت قواه وانزلق جسده الى الأرض وظهره للجدار ..أسند رأسه الى الجدار وأغلق عينيه وهو يلهث بقوه
وجلست زهره الى جواره وهى لاتزال ممسكة بيده وبيدها الأخرى مسحت حبات العرق التى تناثرت فوق جبينه وهى تقول بحنان : عمر ..هل أنت بخير الآن؟
أخذ نفس عميق .وهز رأسه موافقا و قال بعد تردد : نعم ..ولكن عليك أن تغادرى جروزنى الليلة
هتفت باعتراض : ولكن...
قاطعها بانفعال : ألا تدركين الخطر المحدق بك؟
انهم يبحثون عنى كالكلاب المسعورة..وأنا...أنا...
صمت قليلا وأدار وجهه بعيدا عنها حتى لا ترى الضعف فى عينيه
قالت بصوت بالغ الحنان : عمر..ما بك؟
قال بعد تردد : ..أخشى ..أخشى..أن يحترق قلبى وأفقد زهرة فؤادى ..
قد أتحمل كل عذابات الحياه لكنى لن أستطيع أن أتحمل أبدا أن تذبل زهرة روحى ..
نظر فى عينيها من جديد محاولا أن يستمد منهما القوه
فقالت بعد تفكير : عمر.. ان احترقت زهرة , فجبال بلادنا تنبت أجمل واندر الزهور
قال بحنين : ولكن قلبى لا يسع سوى زهرة واحده
ابتسمت بحب : وستظل تحيا فى قلبك ترتوى من حبك لهذه الأرض
أكملت فى شجاعه : لا تقلق علىّ ..سيصبح كل شئ بخير ان شاء الله
قال برجاء : زهره, يجب أن تغادرى جروزنى من أجلى, لن أتحمل أن أكون هناك وقلبى يتمزق من القلق عليكى فى كل دقيقة
عدينى أنك سترحلى مع قوافل المهاجرين أنت وأمك وأخوتك.
ولا تنسى أنك على وشك وضع طفلنا الأول
تنهدت باستسلام ثم قالت وهى تبتسم بحب : ماذا أقول ...لا أستطيع أن أخالف أمر زوجى, سأغادر غدا مع قوافل المهاجرين
ابتسم ابتسامة كبيرة وهو ينظر الى بطنها المتكور الذى يحمل طفلهما الأول ووضع كفه عليها وقال : وانت أيها الولد الشقى ..كن رجل البيت , ولترعى أمك فى غيابى..هل تفهم؟ كن ولدا مطيعا
خفتت ابتسامته وتنهد بقوه وهو يقول : لن يطول الأمر , سأعمل على أن نعود الى بيتنا سريعا
اشتعلت عينيه ببريق غاضب شديد الشراسه : لن ندعهم يهنئون فيها...سنخرجهم منها صاغرين
...............................................
انتفض الذئب مستفيقا من ذكرياته عندما لمع ضوء سريع قوى على وجهه ونظر الى كاترين فوجدها تبتسم والكاميرا على عينها فقال بغضب : صورتى ليست للنشر
أنزلت الكاميرا ببطء وهى تبتسم وتقول : أعلم..اطمئن فهذه الصورة ليست للنشر, فقط أحببت أن أحتفظ بصورة لذئب أنقذ حياتى
نظر الى الطريق بصمت, وشاركته صمته, حتى بدأ يهدئ من سرعة السيارة تدريجيا
التفتت اليه فوجدته قد عقد حاجبيه بقلق وهو ينظر بعيدا
قالت حينما انتقل اليها قلقه : ماذا حدث؟
قال مباشرة : هذا ما كان ينقصنا, حاجز تفتيش
لم يجد الذئب مناصا من التقدم, فتقدم بالسيارة نحو حاجز التفتيش المقام على الطريق
أخذت كاترين تتأمل المشهد والقلق يزداد بداخلها
طابور طويل من السيارات يتوقف أمام حاجز التفتيش الذى يقف عنده مجموعة من قوات الأمن الروسية وتقوم بتفتيش السيارات وتفحص أوراق وهويات العابرين على الطريق
انضم الذئب قسرا الى طابور السيارات, ولم يلبث أن اقترب منه أحد الجنود وطلب منه مغادرة السيارة هو ورفيقته, كما فعل مع جميع السيارات
غادرا السيارة باستسلام والقلق ينهشهما واقتربت كاترين منه وسارت بجواره وكأنما تحتمى به, وشعر هو بخوفها فقال بهمس وهو يسير بخطوات متمهلة : اطمئنى, سأتحدث اليهم, أعلم تماما مايريدونه
فكرت كاترين قليلا ثم قالت عندما اعطتها شجاعته الكثير من الطمأنينة : دعنى أحاول معهم, لا تنسى اننى صحفية ولى طرقى الخاصة
قال بسخرية ضايقتها : منوم أيضا؟
رفعت احدى حاجبيها بضيق وقالت : لدى اشياء أخرى أكثر فاعلية,
قالت وهى تتقدم : انتظر هنا فقد يرتابون بأمرك,سأذهب أنا اليهم
اجاب بصرامة وهو يضغط حروف كلماته مؤكدا : خلفك تماما
التفتت اليه بدهشة وقالت وهى تبتسم : حقا. مسلم !
لم تنتظر كاترين تعليقا منه على عبارتها, ولم يهتم هو بالتعليق بل تجاهل الأمر تماما, فقد كان ذهنه مشغول بالجنود وهم ينظرون اليهما وهما يتقدمان نحوهم
استجمعت كاترين شجاعتها وابتسمت وهى تتحدث الى جنود قوات الأمن الروسية
لكنها فجأة شعرت بالخوف, كانت ردود أفعالهم غير متوقعة ابدا بالنسبة لها
فقد ظهر فى وجوههم القلق والإرتياب, وبات واضحا لها عدم راحتهم لتواجد اثنين من الصحفيين فى ذلك المكان
وعبثا حاولت كاترين اقناعهم بالسماح لهما بالعبور للحاق ببقية الصحفيين،وارتعد قلبها رعبا عندما أمرها أحد الجنود ان تتنحى جانبا لحين التأكد من هويتهما وصدق روايتهما،واستسلمت كاترين وتبعت الذئب الذى انتحى جانبا وسار يفكر فى موقفهما الدقيق وهى بجواره حتى انضما الى مجموعة العابرين الذين غادروا سياراتهم بأمر من الأمن
جلس الذئب يراقب الموقف بهدوء وجلست كاترين بجواره والخوف يكاد ان ينتزع قلبها من مكانه برغم محاولاتها المستميته لترسم على وجهها تعبيرا طبيعيا
قالت بصوت هامس : ماذا سنفعل الآن ؟
قال بثقة شديدة : اطمئنى, حفنة من المال ستسوى الأمر على نحو جيد
أذهلها هدوءه الشديد فى ذلك الموقف الصعب وأخذت تنظر اليه نظرات تمتلئ بالإعجاب,
ولكنه لم يلاحظ نظراتها فقد كانت عيناه مشغولتان بمراقبة المكان وعقله يحسب حسابات الموقف الراهن بسرعة
تنهدت باحباط عندما ادركت انه لا يعيرها ادنى اهتمام برغم حرصه الشديد على حياتها
أدارت وجهها تتأمل فيمن حولها
كان المكان يمتلئ باعداد كبيرة من الشيشانيين ينتظرون الجنود ان يفرجوا عنهم وعن اوراقهم, وبسرعه أخرجت الكاميرا من حقيبتها وبدأت تلتقط الصور
لكنها توقفت فجأة عندما هتف أحد الجنود وهو يقترب منها بسرعة : ممنوع التصوير, ممنوع التصوير
أراد أخذ الكاميرا منها, لكن الذئب تدخل ووعده بعدم التصوير, ولم يتركها الا عندما أقنعه بأن أخذ الكاميرا قد يفسر على انه اعتداء على حرية الصحافة وقد يسئ لسمعة روسيا بأكملها
دست كاترين الكاميرا فى حقيبتها وهى تكاد تنفجر غيظا, وشغلت نفسها بتأمل ما حولها والتحدث الى الناس وتكوين صورة متكاملة عن الوضع فى تلك البلاد وأحوالها
جذب عينيها طفل صغير فى حوالى السادسة يجلس بالقرب منها وبجواره رجل كهل يبدو عليه الضجر الشديد,
اقتربت كاترين من الصغير وبدأت تداعبه بحنان وتمسح على شعره, ثم أخذت تحادث الرجل الكهل حديث طويل,
كانت فرصة لا يمكن ان تضيعها كصحفية للإقتراب من هؤلاء البشر ومعايشة واقعهم على الطبيعة ومعرفة المزيد عن مأساتهم عن قرب
نظر الذئب قليلا اليها وهى منهمكة فى الحديث مع الرجل, وتداعب الطفل بحنو, ثم ادار وجهه واخذ يتفحص وجوه البشر من حوله والتى يحكى كل منها دون كلام قصة مأساه يحياها كل يوم من قلة الغذاء وتدنى الخدمات الى انعدام الأمن
فجأة علا فى المكان صوت سيدة تتحدث بحدة وغضب, التفت الي الصوت ليجد سيدة شيشانية تقف امام جنديين ومشتبكة معهما فى مشادة حادة
تأمل السيدة التى توليه ظهرها, وقفزت الى رأسه صورة زهرة
فقد كانت السيدة تشبهها كثيرا من الخلف وهى ترتدى حجابها
بدأت الدماء تغلى فى عروقه وتتصاعد الى رأسه عندما رأى الجنديين يتعمدان مضايقة السيدة والتحرش بها
انتفض قائما من مكانه وتقدم من السيده وصورة زهرة لاتفارق قلبه, وقف أمام الجنديين مباشرة وحال بجسده بينهما وبين السيدة, وأخذ يتحدث اليهما بهدوء بصوت لم يصل الى كاترين التى وقفت تراقبه من بعيد بخوف وقلق
ازداد خوفها وهى ترى الجنديين يدفعانه فى صدره ولكنه لم يمد اليهما يدا, بل عاد يتحدث اليهما من جديد, بهدوء
لكن احد الجنديين اقترب من السيدة وبدأ يضايقها من جديد
وحاول الذئب ابعاده عنها بالحسنى بلا جدوى
وتفجر الموقف فجأة نيرانا ملتهبة مع صرخات مستنجدة أطلقتها السيدة عندما نزع الجندى حجابها من فوق رأسها بعنف وبصورة مفاجأة, ووجدت كاترين الذئب يهجم على الجندى بغضب هادر ويكيل له اللكمات العنيفة
تراجعت عدة خطوات للوراء برعب وجسدها كله يرتجف عندما أخرج الجندى الثانى سلاحه وصوبه نحو الذئب المشغول بعراكه مع الجندى الأول
وفجأة اندفع الكهل الذى يصاحب الطفل الصغير يجرى بسرعة, ودفع الجندى الممسك بالسلاح فى صدره, مما جعل الرصاصة تخطئ طريقها الى ظهر الذئب وتطيش فى الهواء
وازداد الموقف اشتعالا عندما انضم عدة رجال آخرين الى الذئب والكهل فى معركتهما مع الجنديين
واتى بقية الجنود يطلقون أسلحتهم بغزارة
وفجأة تشبثت كاترين بالطفل الصغير الواقف بجوارها, واحتضنته بقوة, وأصابها ذعر شديد
لم تكن تدرى لحظتها هل تحاول أن تحمى الطفل أم تحتمى به؟
وجد الذئب نفسه فى قلب النيران هو ورفاقه المدنيين الذين انضموا اليه برغبتهم،وتساقط قتلى من المدنيين الشيشانيين, وتفجرت الساحة بالدماء،مما دفع الذئب ان يرفع كفيه فوق رأسه ويصرخ بأعلى صوته : لا تطلقوا النار, نحن نستسلم
أدرك الذئب بخبرته فى التعامل مع الروس أنهم لن يتوقفوا الا عندما يصير المكان حماما من الدماء, كان يخشى على النساء والأطفال المتواجدين فى المكان،وبرغم ان الرجال الذين انضموا اليه دون ترتيب لم يكونوا يعرفونه, الا أنهم توقفوا على الفور عن القتال وكأنهم تلقوا ذلك الأمر من قائد لهم،وتوقفت أيضا النيران الروسية بعد أن خلفت عددا من القتلى, واقتادوا المجموعة الباقية المتمردة تحت تهديد السلاح الى بيت قريب كانوا قد أخلوا سكانه قسرا ليتخذوه مقرا لهم،وسار الذئب بين طابور الأسرى مستسلما ويده فوق رأسه,وعيناه تدوران فى المكان بحثا عن كاترين, وبمجرد أن رآها أشار اليها برأسه اشارة تعنى أن تذهب بالسيارة وتتركه لمصيره
ظلت كاترين ترتجف وهى تحتضن الصغير بقوة وبدأ الجنود فى صرف الناس حتى لا يحدث تمرد آخر،وانصرف البشر وقلوبهم تتميز من الحقد والغضب, وجوارحهم المكبلة تتمنى الإنتقام
بدأت كاترين بالتحرك وهى تبحث عن الكهل الذى يصحب الصغير, ولكنها كادت تخر على وجهها رعبا عندما وجدته بين الجثث المفترشة الطريق, وفى أثناء ارتدادها للخلف, كادت تتعثر بجثة اخرى, جثة المرأة التى بسببها, قامت تلك المذبحة
احتضنت الطفل باشفاق كبير وادارت وجهه الى كتفها حتى لا يرى ذلك المشهد الرهيب, ودموعها تتفجر بغزارة
واستسلم الصغير لها وأسند رأسه الى كتفها, لكن لدهشتها لم يبكى, لم يبكى أبدا

..................................................................................................

بدأت الشرطة الشيشانية تتوافد الى المكان, وكاترين تتراجع وهى تحمل الصغير المتعلق بعنقها ،انتفضت فزعا عندما اصطدمت بأحد الأشخاص, والتفتت بحدة لتجده أحد رجال الشرطة الشيشانية
حاول ان يهدئ من روعها, وسألها عما حدث, فقصت عليه كل شئ وأخبرته ان صديقها معتقل هناك فى ذلك المنزل,
طمئنها الشرطى ووعدها بانه سيحاول اخراجه من هناك, ثم طلب منها طلبا غريبا, طلب منها ان تقود السيارة وتنتظره على الطريق بعد مائتى متر لا تدرى كاترين كيف عادت الى السيارة ومعها الصغير ولا كيف قادتها وجسدها يرتجف من الرعب, والأعجب انها لم تدرى كيف وثقت بذلك الشرطى وأطاعته وانتظرت فى السيارة فى المكان الذى حدده لها,
ربما لأنها لم تكن تمتلك اى حل بديل, أو ربما لأن الرعب قد شل تفكيرها,
جلست فى السيارة تنظر للصغير الذى استكان تماما فى المقعد المجاور لها وأدار وجهه الى النافذة ينظر الى السماء
تنهدت كاترين باشفاق كبير لهذا الصغير الوحيد, وتساءلت فى نفسها : لماذا لا تبكى؟
هل تكرر ذلك المشهد كثيرا أمام عينيك حتى لم يعد يثير فيك مشاعر الفزع؟
هل جفت دموعك من كثرة المعاناة والألم؟


اسندت رأسها الى المقعد باستسلام وتنهدت بقوة وهى تسترجع صورة الذئب والجنود يقتادونه مع الأسرى, وبدأت تشعر بألم كبير فى قلبها وهى تتذكر كيف كان حريصا عليها, وكيف أنقذ حياتها, وهى الآن عاجزة تماما عن تقديم أى معونة له
تمتمت بأسى : ترى ماذا يفعلون بك الآن؟ ..
أغمضت عينيها وأردفت بحزن وهى تتذكر ملامح وجهه : هل سنلتقى ثانية؟
طال الوقت عليها وهى جالسة فى السيارة تنتظر...

تنتظر ماذا؟

لاتدرى..
........................................................


انتفضت فجأة بفزع شديد عندما فتح باب السيارة المجاور لها, ثم انقلب الفزع الى دهشة عارمة عندما وجدت الذئب أمامها
انتقلت الى المقعد المجاور بسرعة مفسحة له كرسى السائق, وتلقت الصغير على ساقيها وهى تتأمل الذئب وهو ينطلق بالسيارة بصمت وبسرعة كبيرة, وهى لا تكاد تصدق ما يحدث

كيف نجا من الأسر؟
شغل هذا السؤال تفكيرها تماما وهى تتأمل ملامحه الجامدة ووجهه الذى لم يلتفت اليها ابدا منذ ان انطلق بالسيارة
هتفت اخيرا بعد ان تمالكت اعصابها : كيف...كيف هربت؟
قال باقتضاب زاد من حيرتها وفضولها : تلقيت بعض المساعدة
ضاقت عيناها بشدة وقالت متسائلة : الشرطى الشيشانى..أليس كذلك؟
هز رأسه موافقا دون ان يتكلم, مما زاد من فضولها وغيظها من صمته
فهتفت بغيظ : ألن تخبرنى بالتفاصيل؟
قال بصرامة : التفاصيل ليست ذات أهمية
لقد ساعدنى على الهرب وكفى
المهم الآن أننا مطاردون, وعلينا الوصول لمكان آمن قبل أن يصلوا الينا
استشاطت كاترين غيظا من أسلوبه الكتوم وعدم بوحه بتفاصيل هروبه والتى تتحرق فضولا لتعرفها
ولكنها أدركت من سابق تعاملها معه أنه ليس هناك قوة فى الأرض تجبره على الكلام مالم يكن راغبا بذلك
فآثرت الصمت على مجادلة عقيمة معه وأدارت وجهها الى النافذة المجاورة لها وهى تزفر بضيق شديد
لكن الذئب التفت اليها متسائلا : من هذا؟
نظرت اليه بدهشة وقالت ساخرة : لاحظته أخيرا !
انه الطفل الذى كان بصحبة الكهل الذى انضم اليك عند حاجز التفتيش
امتلئت عيناه بالأسف الشديد وهو يتأمل الطفل الذى استكان تماما بين ذراعى كاترين وبادله الصغير نظرات طويلة لم يستطع أن يتحملها فأدار وجهه الى الطريق بصمت
أكملت كاترين بلهجة غلب عليها الأسى : تعلق بعنقى, وعجزت عن تركه هناك وحيدا بعد أن فقد مرافقه
تعجبت كاترين كثيرا عندما نظر اليها الذئب ولأول مرة نظرة طويلة وحارت تماما فى تفسير تلك النظرة هل هى اعجاب, أم امتنان لما فعلته مع أحد اطفال بنى قومه
أدار وجهه الى الطريق من جديد بصمت
قالت بعد أن عاد اليها الهدوء : علينا أن نعيده لأهله
قال باقتضاب : وهل تعرفينهم؟
قالت : أخبرنى الرجل الكهل أنهم فى المستشفى الجنوبى
الغريب أنه هو ايضا لا يعرف أهله, لقد تولى مسؤلية اعادة الطفل لأهلة بعد أن اعتقلوا أمه فى جروزنى
عقد الذئب حاجبيه ولاح فى وجهه الألم, ثم عاد من جديد يتأمل ملامح الصغير ولانت عضلات وجهه بالحنان
ابتسمت كاترين قائلة : لم يرفع عينيه عنك منذ رآك, ترى , هل وجودك يشعره بالأمان؟ أم أنه ينظر اليك كمثل أعلى يتمنى أن يصبح مثله؟
أردف بلهجة حزينة : أو ربما كمجرم سلبه الأمل الوحيد المتبقى لديه ليعود الى أهله
قالت كاترين بتعاطف : على العكس, لو كان هذا هو مايدور بذهنه لرفض البقاء معنا, لقد كنت أراقبه جيدا, كان منجذبا اليك من قبل أن تبدأ تلك الأحداث الرهيبة عند الحاجز
قالت بتعجب : مازلت لا أفهم...كيف ألقيت بنفسك فى ذلك الموقف الرهيب؟ لقد نجوت بأعجوبة
أتزج بنفسك الى الهلاك من أجل امرأة لا تعرفها؟
قال بجدية : وماذا لو كانت تلك المرأة هى انت, أما كنت تتمنين أن يسعى اى انسان لإنقاذك؟
تفجرت نظرات الأعجاب الغامر من عينيها وارتسمت ابتسامة عاطفية على شفتيها وهى تقول بصوت يمتلئ بالعاطفة : أتمنى من كل قلبى لو كان هذا الإنسان ......هو أنت,
تنهدت بيأس عندما تجاهل الذئب مشاعرها الممتلئة بالإعجاب ولم يلتفت حتى اليها بل بقى صامتا وعيناه مشغولتان بالطريق,
قالت بعد صمت ولازالت الصدمة تؤثر فيها : لازلت عاجزة عن استيعاب ماحدث, لقد حدث الأمر بسرعة كبيرة وبشكل دموى يفوق حد التصور
لم يكن الأمر يستدعى كل هذا العنف
قال الذئب باقتضاب :
(Up
Mopping)

كاترين بدهشة : ماذا قلت؟
كرر الذئب :
((Up Mopping
الكنس أو المسح"
وباللغة الروسية
(zakhistki
).
كاترين باهتمام : وماذا يعنى ذلك؟ الذئب : (الكنس, أو المسح)هى الخطة التى وضعها الكرملين ووزارة الدفاع للتعامل مع الشيشان وتقضي هذه الخطة بقيام قوات الأمن الروسية بتمشيط ومسح القرى والبلديات التي تمثِّل أماكن يشتبه بأن بها مقاتلين والقضاء عليهم في أماكنهم، فلا وقت لديهم للاعتقالات، ثم تقام حواجز تفتيش يتم من خلالها اعتقال كل من يحاول الخروج، وإدخاله ما يعرف بمعسكرات الفرز, أو
(filtrationcamps
) والتي تحولت بدورها إلى معسكرات تصفية، يتم من خلالها القضاء على من يشتبه في انتمائه للمقاتلين، وإطلاق سراح من تبقى وذلك بالطبع مقابل رشوة مالية تدفع للجنود والضباط. عقدت كاترين حاجبيها وقالت بدهشة عظيمة : أذكر أن منظمة العفو الدولية أصدرت تقرير موجز قالت فيه (إنها عثرت على نمط جديد من انتهاكات حقوق الإنسان في منطقة شمال القوقاز، فبعض الأشخاص يُعتقلون بصورة تعسفية ويُحتجزون بمعزل عن العالم الخارجي، وهناك يتعرضون للتعذيب وسوء المعاملة لإجبارهم على الاعتراف بجرائم لم يقترفوها. وبمجرد توقيعهم على "اعتراف"، يُنقلون إلى مكان احتجاز آخر، حيث يُسمح لهم بالاتصال بذويهم وبمحامين من اختيارهم، إلا إن الاعتراف يبدو "دليلاً" كافياً لضمان إدانتهم.) شردت كاترين بعيدا ودار فى رأسها شريط طويل من الذكريات وهى تسترجع كل ما رأته وكل مامر بها منذ أن دخلت أرض الشيشان وقالت ببطء : هل كان هذا هو مصيرك المحتوم لو لم يتدخل ذلك الشرطى لإنقاذك؟ أجابها صمته بأكثر مما كانت تريد أسندت رأسها الى المقعد وأغمضت عينيها وكأنما لا تصدق : الآن فقط فهمت, إن "الحرب على الإرهاب" التي تشنها روسيا ما هى الا ذريعة لتبرير الانتهاكات المنظمة لحقوق الإنسان فى الشيشان تنهدت بعمق وهى ممتنة فى أعماقها أنها نجت من ذلك المصير المظلم قالت والدهشة لم تزايلها بعد : تساءلت كثيرا عن السبب الذى يضطر صحفية روسية كآنا بوليتكوفسكايا أن تقول فى صحيفة "نوفايا جازيت" أن دور قوات الأمن في الشيشان يتميز بالفوضى واللاقانون, لا يوجد أي قرار من أجل تنظيم عمل هذه القوات في الشيشان، ويبدو أن القرار الوحيد الذي اتخذ هو السماح لهذه القوات بفعل أي شيء" قالت بعد صمت طويل : أخبرنى ..لم يطلقون عليك الذئب ؟ قال بهدوء: لست وحدى الذئب .. كلنا ذئاب قالت وهى تبتسم : أقصد لم اتخذتم الذئب شعار لكم؟ قال بعد صمت : هناك أسطورة في ثقافتنا تقول :
أنّ عاصفة هوجاء تهبّ،فيخاف منها الناس والحيوانات،
فتدمّر العاصفة كلّ شيء حتى لا يجد الناس مكانًا يجتمعون فيه،
فالشجر قد اقتلع من جذوره،

والبيوت قد تهدّمت،
ويبقى ذئب وحيدا يقف بشموخ على صخرة ناظرًا إلى العاصفة،

فيتشبث الذئب بمكانه دون حراك،

حتى عندما ينسلخ جلده يبقى صامدًا لا يتحرّك ولا يصرخ عند الموت,

ويبقى محدقًا بعدوّه إلى أن يموت









وهذا هو حال الشيشانيّ، فهو سيبقى على الجبل ينظر إلى الموت المحيط به دون أن يخاف منه
لهذا يشبّه المقاتل الشيشانيّ نفسه بالذئب ويعتدّ بصفاته التي يتميّز بها،
فجعله فى علم الشيشان شعارًا له جالسًا على صخرة تحت ضوء القمر وحيدًا, للدلالة على عزلة الشعب الشيشانيّ من بقيّة الشعوب.






ان الذئب يستحيل ترويضه, تماما كالشعب الشيشانى .
وهو مخلص لشريكه، ويساهم الذكر في تربية الجراء.
وهو الحيوان الوحيد الذي يزداد شراسة مع التقدّم في العمر.
و يكون في قمّة شراسته عندما يجرح.
ولا يصرخ عند الموت, ويبقى محدقًا بعدوّه حتى يموت

ولا يصرخ عند الموت, ويبقى محدقًا بعدوّه حتى يموت.
صمت قليلا, ثم أردف بلهجة عميقة اهتز له فؤادها :
هكذا الشيشانى

صمت قليلا, ثم أردف بلهجة عميقة اهتز له فؤادها : هكذا الشيشانى
قالت بسرعه حتى لا يعود لصمته وقد سرها كثيرا جذبه للحديث : كيف احتلت القوات الروسيه الشيشان؟
طال صمته لكنها لم تيأس من أن تجعله يتكلم فقالت : أريد أن أعرف الحقيقه
قال بهدوء: وبعد أن تعرفى الحقيقه؟
قالت بدهشه : أنشرها للعالم
قال بسخريه مريره : وهل سيغير هذا من الواقع ؟
عاد لصمته من جديد فقالت بدهشه : الا يهمك أن يعرف العالم الحقيقه ..أن يفهم قضيتكم ..أن يتدخل لحلها؟

قال : وهل تعتقدى أنهم لا يعرفون؟..انهم يعرفون منذ زمن بعيد ..منذ أول مرة اقتحم فيها الروس الشيشان بعد استقلالها عام 1994 وأجبرناهم على الخروج من أرضنا أذلاء عام 1996
خرج الروس ومنهم من يبكي من مرارة الهزيمة التي لحقت بهم على أيدي قلة من المجاهدين ، وقد كان الخروج بعد المفاوضات التي جرت بين الجنرال ليبد الممثل عن الحكومة الروسية ووزير الدفاع الشيشاني ،
وقد صرح الجنرالات الروس للوفد الشيشاني : أننا سوف نعود إلى الشيشان ولو بعد خمسين سنة .
ولقد صدقوا.....وعادوا مرة, ومرات, وكلما أخرجناهم, يعودوا من جديد
وفى كل مرة يكررون نفس السيناريو بحذافيره ..يتحرشون بنا, ويعملون على اثارة الفتن والقلاقل ويحاولوا اغتيال الزعماء وقادة الجهاد ليحطموا معنوياتنا ويزرعوا عناصر من استخباراتهم داخل المجاهدين ويمارسوا علينا حصارا اقتصاديا شديدا بهدف تجويعنا , ويمنعونا من التعامل مع العالم الخارجى
وهكذا يمهدوا الطريق أمام التدخل العسكرى ..بعدها يقوموا بعمل سلسله من التفجيرات والعمليات الإرهابيه فى روسيا يتهمونا بها..وهكذا يكون المبرر أمام شعبهم وجنودهم وأمام العالم لغزونا موجود
قالت بدهشه : ولكن لماذا أنتم بالذات؟
قال بغضب : يريدون استغلالنا والاستفادة من النفط الشيشاني، ومن المناطق الزراعية والصناعية في الشيشان
كما أن الشعب الشيشانى من أبغض الشعوب إلى الروس، كما تذكر الأساطير والروايات الروسية.
يحلمون بتكوين إمبراطورية روسية على غرار أوروبا الموحدة وهذه الإمبراطورية لا مكان للإسلام فيها
هتف بمرارة : العالم كله يعرف ويبارك المجازر والإنتهاكات الروسيه فى حقنا
فى الحرب السابقة والتى قبلها, والتى قبلها, كم أعطونا من مواعيد لإيقاف الحرب دون أن نرى تحركا حقيقيا على الساحه مثل ما تحركت قوات الناتو خلال 48 ساعه فقط واتخذت قرارات صارمه فى تيمور الشرقيه منذ سنوات عديده .....ولكن
نحن....مسلمون
قال الكلمه الأخيره بسخريه لاذعه شديدة المراره
همت أن تقول شئ ...
لكنه سبقها قائلا : اقتربنا من القرية, سنبيت ليلتنا هنا فى مكان آمن, لدى عائلة شيشانية, فلا شك أنكما متعبان وجائعان
قالت باسمة : وأنت أيضا, أم أنك لا تجوع؟
قالت عندما لم يرد عليها : هل هذه العائلة هى احدى المساعدات التى قدمها لك الشرطى الشيشانى؟
قال بهدوء : الكثير من عناصر الشرطة الشيشانية متعاطفون مع القضية ومع المجاهدين, بل ان بعضهم سعى بنفسه للعمل فى الشرطة فى محاولة منه لتسخير جهوده فى مساعدة المجاهدين والتخذيل عنا
قالت باسمة : كما حدث اليوم!
لم يجيب ولكنه قال : وصلنا الى البيت المقصود

كان الظلام قد زحف على المنطقة كلها عندما دخل الثلاثة الى احدى منازل القرية الصغيرة من أول لحظة وضعت كاترين قدمها فى ذلك المنزل وشعور عجيب بالراحة والأمان يغمرها فبرغم موقفهم الدقيق ومطاردة الروس لهم, وقلقها من أن ينكشف سرهم أو أن يقوم أى شخص بالإبلاغ عنهم وبرغم عدم سابق معرفتهم بأهل هذا البيت, الا أنها تعجبت تماما من كم الحفاوة والترحيب الذى غمرهم منذ أن وطأت أقدامهم ذلك البيت القروى الصغير فالسيدة ربة البيت قامت بنفسها بالترحيب بهم وتقديم الطعام لهم, وابنها آدم الفتى الوسيم الملتحق حديثا بالجامعة وقف على خدمتهم والعمل على راحتهم وعندما التف الجميع حول المائدة الزاخرة بالطعام الساخن الشهى. أخذت الأم الطيبة الطفل الصغير وأجلسته على ساقيها وبدأت تداعبه بحنان وتطعمه بيديها لكن دهشتها كانت كبيرة عندما رفض الطفل أن يفتح فمه, أو يتناول أى طعام نظرت الأم لكاترين بدهشة وسألتها : ألن يأكل؟ زفرت كاترين وقالت باحباط : لا أدرى كيف أتصرف..أخشى أن يكون مصاب بصدمه أو شئ من هذا القبيل, فهو لم يفتح فمه منذ أن التقيته, حتى أننى لا أعرف حتى الآن ما اسمه مسحت الأم على شعر الصغير بحنان وحاولت اطعامه من جديد لكن الصغير أبى نقلت الأم عينيها بين الصغير والذئب, وقالت له : ربما لو رآك تأكل فقد يأكل نظر اليها الذئب بدهشة وقال متسائلا : أنا؟ هزت رأسها قائلة : نعم, فهو لم يكف عن مراقبتك منذ أن جلست الى المائدة ابتسمت كاترين مؤيدة : ألم أقل لك؟انه لا يشعر بالأمان الا فى وجودك دارت عيناه فى وجوههم, ثم مد يده أخيرا الى الطعام وبدأ يأكل عندما وجد الجميع ينظر اليه فى انتظار أن يأكل ولكم كانت دهشته عظيمة عندما فتح الصغير فمه هو أيضا وبدأ يأكل ابتسمت الأم برضا واطمئنان, وهدأت كاترين وأخذت تستمتع بطعامها بهدوء بعد أن اطمأنت على الصغير أما عمر فأخذ يتأمل ملامح الصغير مندهشا, من تلك النظرات العميقة الصامته التى يختصه بها دون الآخرين لكن شعور ما انتابه فجأة وجعله يعجز عن تحمل نظرات ذلك الصغير فدفن بصره فى الطعام بصمت بعد الطعام, جلس الجميع فى البهو الواسع يتسامرون بود حول المدفأة والتلفاز, وانضم اليهم الجد الكبير, الذى تجاوز الثمانين بأعوام عديدة. ودار الحديث حول أحوال القرية وأحوال البلد عموما, ولأشد ما أدهش كاترين أن أى منهم الجد أو الأم أو حتى الفتى آدم لم يسألونهما عن اى شئ أو عن سبب مقدمهم فى ذلك الوقت واكتفوا بما قاله الذئب لهم من أنهما صحفيان ضلا الطريق وساعدهما الشرطى الشيشانى وأعطاهما هذا العنوان ليبيتا ليلتهما, ويلحقا فى الصباح ببقية الصحفيين لكن الصمت هبط فجأة على الجميع عندما بثت نشرة الأخبار فى التلفاز نبأ الأحداث الدامية التى حدثت اليوم عند حاجز التفتيش, وانتبهت كاترين بشدة وعقدت حاجبيها باهتمام كبير عندما سمعت المذيع يقول أن ثلاثة من الإرهابيين هربوا من الموقع بعد أن قتلوا اثنين من قوات الأمن الروسية وجرحوا خمسة وهبط قلب كاترين فى قدميها وسكن الرعب خلاياها عندما قال المذيع أن قوات الأمن الروسية تبحث عن رجل وامرأة انتحلا صفة صحفيان نظرت السيدة فى وجه كاترين ولاحظت قلقها الشديد وفهمت بذكائها سبب القلق الذى اعتراها فقالت مطمأنة : لا أظن أن باستطاعتهم الإمساك بالصحفيين, فلا شك أنهما ابتعدا تماما عن المكان وربما يكونان الآن فى مكان آمن يعجز أحد عن الوصول اليه نظر اليها الذئب بامتنان كبير وقال بلهجة ذات مغذى : وربما يبيتان ليلتهما فى أمان بين أناس طيبون هدأت كاترين تماما وشعرت بالأمن يحيط بها من جديد وهى تتأمل تلك الوجوه الودودة الطيبة, مما جعلها تتحدث براحة ودون تحفظ تنهدت بأسى وهى تسترجع تلك المشاهد المؤلمة فى ذاكرتها قائلة : لا أدرى كيف بدأ الأمر؟ ولأى سبب تسال كل تلك الدماء؟ أمن أجل امرأة ترتدى الإيشارب يقتل كل هؤلاء البشر؟ ألم يكن من الأسهل أن تخلعه بهدوء ويمر الأمر بسلام؟ قال الذئب بلهجة صارمة : المشكلة ليست فى الحجاب, لو لم تكن تلك المرأة ترتدى حجابا لبحثوا عن الف وسيلة أخرى لإذلالنا واهانة مقدساتنا نظرت اليها الأم وقالت بهدوء : يا بنيتى, الأمر ليس مجرد غطاء تضعه المرأة على رأسها, بل هو عقيدة فى صميم ديننا, وهم يفهمون ذلك جيدا إنها حرب على الإسلام هتف الفتى آدم : هذا ليس موقفا فرديا, أو مصادفة, بل هى سياسة منظمة ومتعمدة قرأت تصريحا للرئيس الروسى يقول فيه : (إني أحارب عدوي الإسلام حتى لا تفشوا وتتجاوز إلى آخرين .) كما قال في تصريح آخر : (إننا سوف نقضي على الإرهابيين في داغستان والشيشان ثم نحول الباقين إلى النصرانية .)
أجابه الذئب : الرئيس الروسي لا هم له الا اصدار التصريحات التي يزايد فيها على تصريحات الرئيس الأمريكى، حين أعلن أن البلدين معًا في وجه
"الإرهاب الإسلامي، أو الإرهاب الذي يشجع عليه الإسلام".أو الإسلام الفاشى كما يطلق عليه قالت الأم والأسى يغمر كلماتها : يريدوننا عبيداً وخدماً لهم ويريدون أراضينا مرتعاً خصيباً لهم؟ ذلك المعنى ثابت ومترسخ فى العقلية الروسية, يتوارثونه جيل بعد جيل قالت كاترين بألم : ولكن ماحدث هناك كان فظيع قتل عدد كبير بلا ذنب ولا جريرة, وأسر عدد أكبر, يعلم الله الى أين أخذوهم ولا ماذا يفعلون بهم الآن آدم بانفعال : لقد اعتدنا ذلك, القتل والخطف عند حواجز التفتيش يحدث بصورة كبيرة ومتكررة حتى أننا نصدق أنها عملية مدبرة ومقصودة لقد استشهد أخى محمد عند أحد حواجز التفتيش, وبنفس الطريقة, ولسبب تافه للغاية أكمل والغضب يقطر من كلماته : قوات الأمن تعتبر كل شيشاني إرهابيًّا، وتقتل المدنيين بلا حساب، مما اضطر رئيس وزرائهم إلى القول: (إن هذه العمليات ضد الإرهاب لا يمكن تفادي وقوع ضحايا مدنيين فيها.) ومع ازدياد الوضع سوءاً, وكثرة أعداد القتلى والأسرى بدأ يظهر بوضوح الدور الإجرامي لهذه القوات، خصوصًا ما يتعلق بالرشاوى، فالمواطن الذي لديه وثائق يدفع 200 روبل رشوة حتى يمر، والذي لا يملك وثائق قد يدفع قرابة ألف روبل حتى يتم الإفراج عنه، إضافة إلى أعمال السلب والنهب والقتل، وهذا ما دفع "فيكتوركازينوف" موفد الكرملين أن يقول : "هناك جرائم ترتكب عند نقاط التفتيش، ويجب أن نعتذر عنها، ونطلب الصفح ممن جرت بحقهم".
أما وزير الداخلية الروسي فهو يعتبرالعمليات -على قسوتها- ضرورية، بل وتمت بصورة قانونية. وساند الكرملين وزير الداخلية عدة مرات: الأولى حين رفض الكرملين طلبًا للبرلمان بفرض حالة الطوارئ على الشيشان، والتي تسمح بتطبيق القانون العسكري على أي مخالفات تقع من الجنود والضباط الروس، والثانية حين رفض السماح للسفير الأمريكي في روسيا بزيارة الإقليم، كما رفض السماح لمنظمات وجمعيات حقوق الإنسان بالتواجد. وأغلق في وجهها الحدود، ومنعها من الاقتراب من الواقع المأساوي في الشيشان لقدأصمَّت روسيا أذنها عن صرخات جماعات حقوق الإنسان، قالت الأم بسخرية مريرة : مع ما تفعله بنا السلطات الروسية من عمليات التعذيب والاختطاف والاحتجاز السري للمدنيين. فلا حقوق لأى انسان, هذا ان بقى على قيد الحياة آدم : "الاغتصابات والتعذيب وأحكام الإعدام التي تنفذها القوات الروسية خارج سلطة المحكمة، تحدث هنا تقريبا بشكل يومي "،وكالة الأنباء الفرنسية لذا فالجميع هنا فى حالة من الرعب جعلتهم لا يستطيعون حتى مساعدة جيرانهم, الأمر أسوأ بكثيرمن الحرب، وبإمكانك أن تسألى أي فرد هنا، الجميع يرتعد خوفا. قالت كاترين بعد أن أصبح الوضع شديد الوضوح بالنسبة لها : ولهذا لم يرتاحوا لوجودنا بوصفنا صحفيين عند حاجز التفتيش, لا شك فى أنهم يخشون أن نفضح ممارساتهم وأفعالهم اللاانسانية يريدون غلق الحدود، ومنع تسريب أخبار عن ممارساتهم في الشيشان سوى ما يمليه الروس فقط على الإعلام الذئب : "لقد وضع رئيس الوزراء هدفه من الحملة على الشيشان، وهو، باختصار
، أن تختفي الشيشان من الصفحات الأولى للصحف"
ونجحت الماكينة الإعلامية الروسية الى حد بعيد في تشويه صورة الشيشانيين في عيون الرأي العام الروسي، وبفضل خطتها الإعلامية المحكمة التي تقوم على التعتيم والانتقاء في البث والنشر خففت -إلى حد كبير- من الضغط الشعبى الداخلي على الكرملين، كما تمكنوا من منع وصول الحقيقة إلى الرأي العام العالمي، وتحولت القضية من قضية شعب يبحث عن الاستقلال إلى شعب إرهابي بأكمله. ترددت كاترين طويلا قبل أن تقول: أرجو ألا تسيئوا فهمى.. ولكنى أتساءل, ما جدوى المقاومة، والعمليات المسلحة وهل تستطيع بلد صغير كبلدكم الصمود أمام الدب الروسى العملاق بكل عتاده وما يتلقاه من دعم خارجى وداخلى, هل النضال ضد المحتل حقا مُجدٍ أم أنه مجرد انتحار كما يرى البعض؟ تخلل صوت الذئب العميق أذنيها وشعرت وكأنه يتسلل الى خلاياها : لولا هذا النضال لكانت قضية الشيشان عنوانًا كبيرًا في الصفحة الأخيرة –صفحة الوفيات- بدلاً من بقائها عنوانًا –ولو صغيرًا- على الصفحات الأولى. الحرب ليست عسكرية فقط، بل إعلامية بالدرجة الأولى، ورغم محدودية إمكاناتنا فقد بقيت القضية حية حتى الآن. ان صمود الشعب الشيشاني وتماسكه، وصمود مقاومته -والأهم من ذلك كله عدم استجابته لما تريد روسيا فرضه علينا- كل ذلك ساهم في إحياء القضية إعلاميًّا مرة أخرى، التفت الجميع عندما سمعوا صوتا عجوزا واهن يتنحنح لقد انضم الجد الكبير أخيرا للحوار, مال قليلا للأمام وبدا وكأنه يحكى عمرا طويلا, وسنينا غابرة : الحرب بين الروس والشيشان ليست وليدة ، بل هي قديمة, قد مضى عليها أكثر من أربع مائة سنة ، حدثت فيها مذابح كثيرة للشيشان على أيدي الروس ، وتهجير الشعب الشيشاني إلى سيبيريا وكازاخستان بأمر من الطاغية ستالين ، حيث قتل من البرد الأعداد الكبيرة ، وكذلك حروبهم الماضية ضد الشعب الشيشاني . أعوام كثيرة مضت, لاهى بالقريبة ولا بالبعيدة سنوات عايشت تفصيلاتها وأحداثها وتجرعت آلامها ومرارتها قطرة قطرة أهوال وعذابات يعجز أعظم المؤلفين عن مجرد وصفها حكايات وأحداث كان بطلها الأوحد هو الموت, فقط الموت تنهد بعمق, وابتلع ريقه بصعوبة وكأنما يتجرع مرارات أعوام طوال بعدد سنوات عمره الكثيرة وبدأ يحكى بصوت حزين : من أزمان بعيدة وهم لا يحملون لنا سوى الكراهية والغدر والقتل واذا ما حاولوا التقرب الينا فهذا لا يكون الا بهدف مصالحهم الخاصة ليجعلوا منا سلما يصعدون عليه ليصلوا لأهدافهم حدث في عهد روسيا الشيوعيّة بعدما أطيح بالقيصريّة الروسيّة على أيدي الحركةالإشتراكيّة الشيوعيّة بزعامة لينين عام 1917م، اتبع لينين إستراتيجية قذرة ليكسب التأييد العام، فقام بإلقاء خطب تنادي بحريّة الأقليّات التي اضطهدها القياصرة، وأصدر وعودًا لهذه الأقليات بالانفصال والاستقلال وبالحريّة الدينيّة، بل قام شخصيّا بتسليم مصحف عثمان - رضي الله عنه- الذي كان بحوزة القياصرة ومجموعة من الوثائق الإسلاميّة والتاريخيّة الهامّة. ومن هنا بدأت جمهوريّات إسلاميّة بالاستقلال بمباركة لينين نفسه،ولكن كل ذلك كان يدار بخسة وغدر شديدين، فبعدما بدأت آثار قوّة النظام الجديد بالظهور أمر لينين بالزحف نحو البلاد الإسلاميّة دون سابق إنذار، ليبدأ المسلسل الجديد لإبادة المسلمين بشكل أبشع وأقذر ممّا كان عليه في العهد القيصريّ الروسيّ بمرات عديدة. إنّه عصر دمويّ بكل معنى الكلمة، ونقطة حمراء في تاريخ البشريّة من صنع أكبر سفّاحين: ستالين ولينين، لقد تسببوا بقتل الملايين من المسلمين من دون ذنب، قتل لينين حوالي 8 مليون نسمة من مسلمي القوقاز، وبعد ذلك خلفه ستالين بقتله ما لا يقلّ عن 20مليون نسمة بأبشع الطرق منها:
مليون، رميًا بالرصاص

ومليونان من المعارضين، ومليون على أعواد المشانق

و7 مليون من الريفيين نتيجة التأميم،
و11 مليون في معسكرات العمل،
ومليون نتيجة النفي الجماعي ،
وكان من أحد الشعوب التي تعرضت لهذا القهر والقتل هم شعب الشيشان.

لقد واجه الشيشان الاحتلال الشيوعيّ بقوّة، فظهرت ثورات عديدة ضدّ هذا الظلم، منها ثورة (إبراهيم قلدقت) عام 1934م وغيرها الكثير، وكان الشيوعيون يخمدونها بالقوّة وبالمجازر. وفي أثناء الحرب العالميّة الثانية زادت أهمية القوقاز حينما قرّر هتلر ضمّها مع أوكرانيا للدولة النازية لتمدّها بالطعام والوقود، ولكنّ الشيشان لم تتدخّل بين الفريقين ، وعندماانتهت الحرب أعلنت حكومة ستالين اعتبارها لشعوب الشيشان والأنجوش والقرم (شعوبا خائنة) نتيجة لعدم تدخلهم لصالح الشيوعيين وقت الحرب وزعموا كذبا بأن الشيشان اشتركوا فيصفوف الألمان ، وعليه بدأت في 23 فبراير عام 1944 م عمليات الترحيل الجماعي إلى كازاخستان وسيبيريا المتجمدة التي تصل درجة الحرارة فيها إلى- 58 س تحت الصفر. تمت عمليات الترحيل بواسطة القاطرات الطويلة البطيئة، و كانت الرحلة تستغرق ثلاثة أسابيع تقريبا في قطارات لم يكن فيها مرافق صحية ولا تدفئة ولا حتى مقاعد، الكثير من المعمرين يذكرون هذه الرحلة الشاقة الرهيبة : كنا نتوضأ بالثلج ونصلى ... وربما شاهدت كثيرا منا ملقى على الأرض ميتا قد انكسر ظهره من شدة الصقيع الكلاب القطبية كانت تجد فريستها منا فكانت تأكل أحشاء الإنسان وهو يصرخ : أبعدوا الكلب عني، وقد خارت قواه من شدة الجوع والبرد ولايستطيع الهرب ... وأين يهرب هذا المسكين والكلاب كثيرة تهاجم المخيم بشراسة،ولعدم وجود المرافق الصحية كان البالغون يضغطون على أنفسهم في القطارات ، فمات كثيرون منهم من تمزق المثانة ، إلا أن الأطفال لم يكونوا قادرين على ذلك ، مما كان يؤدي إلى تبلل القش الذي فرشت به أرضيات العربات فتنبعث الروائح الكريهة غير المطاقة،فيلجأ المهجرون إلى إخراج القش عند توقف القطار، فتتسرب الرياح القارصة داخل القطار. أما الحياة في المهجر فكانت صعبة جداً ومليئة بالعقبات والصعوبات، كانت درجة الحرارة تتدنى من الصفر بكثير، ومع عدم وجود بيوت وملاجئ للمهجرين عام 1957م، أي بعد 13 سنة في المنفى، أعلن الرئيس (خورتشوف) براءة الشيشان والشعوب الأخرى من التهم التي وجهت ضدهم، فسمح لهم بالرجوع إلى بلادهم ، فرجع المعظم إلى ما يقارب من 150 ألف بقوا في كازاخستان وهاجر بعضهم إلى دول أخرى كبلاد الشام والعراق وتركيا اتسعت عينا كاترين بشدة وتجمعت دموع غزيرة فى مقلتيها قاومتها بقوة حتى استطاعت التغلب عليها وابت ان تنحدر على خديها قالت بصوت متهدج : لا أصدق..أكاد حقا لا أصدق كيف لكم بتحمل كل تلك الأهوال والمصائب؟ كيف لم تخضعوا فى ظل كل تلك المآسى؟ كيف تسرى فيكم روح المقاومة حتى الآن؟ قال آدم بحماس : الشعب الشيشاني لا يعرف الهزيمة ، فكما يسمينا الروس [ الشعب الذي لا يرهب الموت ].
وكما قيل عنا
:" لك أن تكسر ظهورهم ولكن لا تستطيع أن تنال من روحهم المعنوية"
لقد استشهد أخواى وزوج أختى فى الحرب الأخيرة تساءلت كاترين بدهشة عارمة : فقدت ثلاثة من اخوتك ؟ لم؟ وكيف؟ وأين هى أختك؟ قالت الأم بأسى : تزوجت من جديد وهاجرت مع زوجها الطبيب مصطحبة طفليها لكي لا ترى وجوه قتلة شعبها. وهى الآن تعمل في مخيمات اللاجئين في أنجوشيا شردت عينا عمر بعيدا, وقال بصوت حزين : هنا, على هذه الأرض يتكرر هذا المشهد بالعشرات, بل بالمئات أعرف أُسرا عديدة فقدت كل أبنائها الاثنين أو الثلاثة أو الخمسة لازالت الشيشان صامدة, تقدم أبناءها ثمنا لدينها وحريتها منذ مئات السنين, وحتى الآن. نظرت كاترين الى الأم وقالت بتعاطف كبير : وأنت..لم لم تغادرى؟ رفعت الأم رأسها وقالت بعزة واباء : لأن أرضنا هاهنا, وسنظل هنا حتى ندفن فيها, لن نتركها لهم كاترين بدهشة : مع كل مايحدث لكم؟ وكل هؤلاء القتلى؟ ألا تشعرون بالخوف؟ قال الجد بصوت يفيض ايمانا وصدقا : هذا لأن ما نحمله فى قوبنا وما يريدون هم نزعه منا راسخ فينا كرسوخ الجبال فى أرضنا قالت الأم بصوت يمتلئ فخرا : انه الإيمان يا ابنتى.. الإيمان اشتعل المكان بصوت الذئب يمتلئ برائحة الثأر والإنتقام وعيناه تنضحان بغضب مرعب :
"الشيشانيون لن يسامحوا أبدا روسيا المجرمة التي تبيد الشعب الشيشاني
سوف يحاسبون على موت مئات الألوف من الأطفال و النساء الشيشانيات المسنات،
على التعذيب الوحشي و المعاملة المهينة التي يعاملونا بها
على المعتقلين في مخيمات الاعتقال الجماعي،
على المقابر الجماعية الممتلئة بجثث أشخاص قضوا نحبهم من جراءالتعذيب دون ذنب أو جريرة
على دموع أطفالنا الذين تيتموا،
على آلام الأمهات اللاتي فقدن أطفالهن, أغلى ما لديهن في الدنيا."

ارتجف قلب كاترين رعبا وهى تتأمل وجهه الذى احمر غضبا وهو يردف : في الجرائم المرتكبة ضد الله و الإنسانية, لا وجود للزمان ولاالنسيان ولا يُعفى عنها أبدا. التفتت كاترين الى الصغير الذى تحول الى تمثال صامت يحدق باتجاه واحد فقط, وكأن الحياة قد خلت حوله الا من الذئب, فلم يعد ينظر الى سواه أحست الأم بقلقها على الصغير فوضعت حدا للموقف بقولها : أعتقد أنكم بحاجة الى النوم بعد يومكم الشاق اتجهت كاترين مع الصغير الى الغرفة التى أعدتها الأم لهما وأخذت تتأمل الغرفة ومحتوياتها, كانت غرفة واسعة مريحة, ومرتبة جيدا وتحوى كل الأثاث الضرورى وسبل الراحة أخذت الأم تدور فى الغرفة وتتأكد من ان جهاز التكييف يعمل بشكل جيد, وكذلك الإضاءة سألتها كاترين بدهشة : يبدو أن جهاز التكييف لم يعمل من مدة طويلة قالت الأم : نعم, فمن وقت طويل لم يأتينا ضيف قالت بدهشة : الا تستخدمون تلك الغرفة الا عندما يأتيكم ضيف؟ الأم : في كل منزل في القرية غرفة مخصوصة للضيف، تسمى "غرفة الضيف"، جاهزة دوما للإستقبال في أي وقت, ولا أحد من أهل البيت يمكنه استخدامها ، إكرام الضيف واحترامه له مكانة عظيمة لدى الشيشانيين, وخاصة فى القرى
" فالبيت الذي لا يدخله ضيف- لا تدخله البهجة والسرور "، كما يقول المثل الشيشاني كاترين بامتنان كبير : لا أدرى ماذا أقول, ولكنى حقا سعيدة للتعرف باناس مثلكم أتمنى الا يتسبب وجودنا هنا فى أية مشكلات أو يعرضكم لأية مضايقات اقتربت منها الأم وأمسكت بيديها وهى تبتسم مطمئنة وقالت بلهجة حانية : نامى قريرة البال, واطمئنى فمن قواعد إكرام الضيف عندنا، الحفاظ على حياته، والدفاع عن كرامته، وحماية ممتلكاته مهما حدث،ونحن قوم نحب أن نتمسك بتقاليدنا. التفتت الأم للصغير, فوجدته قد توسد الفراش واستغرق فى نوم عميق اقتربت منه وخلعت حذائه بهدوء ووضعت رأسه على الوسادة برفق, وغطته بالأغطية الثقيله قالت كاترين براحه : أحمد الله أنه نام أخيرا أردفت بأسف كبير : كنت أظنه لن ينام أبدا بعد ما رآه اليوم, لكم أشعر بالألم والشفقة لحاله تنهدت الأم بعمق وقالت بحزن : هناك آلاف من الأطفال مثله, بل وأسوأ حالا منه, لهم الله, فهو نعم المولى ونعم النصير قالت كاترين : هل يمكن أن أتحدث الى زميلى؟ الأم : بالتأكيد, خرج عمر من حجرة الفتى آدم بعد أن نادته الأم بناء على طلب من كاترين تركتهما الأم فى بهو البيت واتجهت الى غرفة الجد لتطمئن عليه قال الذئب بهدوء : هل تشعرين بالراحة هناك؟ هزت رأسها وقالت باسمة : بالتأكيد, فالسيدة لا تدخر وسعا لطمأنتى واشعارى بالراحة قالت بعجب : هل كل العائلات الشيشانية بتلك الحفاوة؟ قال بتأكيد : كما تقول الأساطير، وُلِد الشيشاني و قطعة حديد في إحدى يديه- رمز المحارب، وقطعة جبن في اليد الأخرى- رمز إكرام الضيف. قالت متعجبة : لم يسألونا أى سؤال, لم أتينا, أو من نحن! قال بهدوء : خلال الأيام الثلاثة الأولى من غير اللائق أن يٌسأل الضيف أي سؤال,فالضيف لدينا يعيش في البيت كعضو شرف بين العائله. تنهدت وقالت : أظن أنك تشعر بالراحة هنا فآدم فتى لطيف, أليس كذلك؟ شرد قليلا وقال : نعم, يذكرنى بشخص ما

قالت بعد تردد : أود أن أقول لك شئ, عليك أن تكون أكثر حرصا فى اظهار مشاعرك السلبية تجاه الروس أمام الصغير فكما أخبرتك, هو ينظر اليك كمثل أعلى, ويراقب كل حركاتك وتصرفاتك, ويتوحد مع مشاعرك أيا كانت
التفت اليها وقال بهدوء يشع بالغضب العارم المعربد فى أعماقه : أتظنى أنه ينتظرنى لأعلمه كيف يكره قتلة أهله وشعبه؟
لم لا تسألينه عن أمه المعتقلة فى جروزنى؟
لم لاتسألينه أين أباه الآن هل فى إحدى المعتقلات يتجرع العذاب ألوانا بأحط الطرق وأشنعها على الإطلاق
أم رحمه الله بالإستشهاد فى مقبرة جماعية لم تكتشف حتى الآن
لم لاتسألينه عن أهله, وماذا يفعلون فى المستشفى الجنوبى؟
كم منهم لايزال على قيد الحياة
وكم منهم استشهد متأثرا بجراحه من جراء القصف الروسى؟
وكم منهم فقدوا أعضاءهم أو أصيبوا بعاهات لن يبرأوا منها مدى الحياة؟
لم لاتسألينه أين بيته؟
وهل لازال هناك منه بقايا؟ أم محى من الوجود؟
الروس لاينتظرون منا أن نعلم أولادنا كراهيتهم, فهم يقومون بهذا الدور ببراعة منقطعة النظير
وفى كل الأحوال, نحن الخاسرون, يخسر أبناءنا سلامهم النفسى,
ويعيشون ما أراد لهم الله البقاء معاقين نفسيا, يحملون أمراضا لا شفاء منها
ظلت تتأمله وهو يتحدث, وعينيها تتسع بتأثر كبير, وعجز جفناها عن حمل كل هذا القدر من الدموع, فتركتها تنسكب على خديها ظلت صامتة لفترة, حتى وجدت أخيرا ما تقوله : اذا فقضية السلام, قضية خاسرة؟ عقد حاجبيه بشدة وقال بنفس صوته الهادئ الذى يحمل الغضب الكثير : هناك حكمة شيشانية تقول
(من لاينشد السلام, يقع فى الحرب)
وجهت السؤال الى الجانب الخاطئ, عليك أن تسأليهم هم, هل يريدون السلام؟
قالت بتعاطف كبير : لقد عانيت كثيرا, أليس كذلك؟
قال مؤكدا : كأى انسان يحيا على هذه الأرض, ويسكن تلك الجبال, يسعى الى الحرية ويرفض أن يترك وطنه للغزاة
قال منهيا الحوار : والآن عليك الذهاب الى النوم, فغدا أمامنا رحلة شاقة
اتجه الى باب البيت, فاستوقفته قائلة بدهشة كبيرة : الى أين فى هذه الساعة المتأخرة؟ والجو شديد البرودة
قال وهو يفتح الباب ليخرج : سأتفقد الطريق, لتأمين المكان
قالت قبل أن يخرج : فقط سؤال أخير
نظر اليها فقالت بتردد : هل.....هل زوجتك جميله ؟
شعرت كاترين بالندم وتمنت لو لم تسأله وذلك عندما شاهدت النظرة الحزينة التى هربت من عينيه قبل أن يخرج بسرعة ويغلق الباب خلفه دون أن ينطق بكلمة أخرى

تنهدت بعاطفة كبيرة وهى تقول بحنان :

أيها الوحيد الغريب
لكم تفتقد أحضان أهلك وأحبتك,
لكم تشتاق الى دفء بيتك
و تراب وطنك

..........


ذاب الثلج تحت قدميه من وطأة الحرارة المنبعثة من لهيب الحزن والغضب الذى يعربد فى أعماقه, والذكريات تطارده من كل مكان عمر ..... ارتجف قلبه بقوه عندما رأى تلك النظرة الأليمة فى عينى القائد كان وجهه يقطر حزنا وأسفا . وعيناه تهربان بعيدا حتى لا تلتقيان بعينى عمر ابتلع القائد ريقه وقال بتردد : لقد . لقد قصفوا مخيمات اللآجئين وقوافل المهاجرين قاموا بمجزة بشعة لأهلنا المدنيين دمروا ثلاث حافلات مدنية محملة بالمهاجرين وقتلوا جميع من فيها من أطفال ونساء وشيوخ عمر....أوصيك بالصبر كما علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم احمد الله واسترجع ...فزوجتك.... من الشهداء زلزل جسده ولم يستطع الوقوف على قدميه وكاد جسده يهوى أرضا, لولا أنه استند بكفيه الى سطح مكتب القائد سقط رأسه بين كتفيه وأغمض عينيه بقوة وأخذ جسده ينتفض بعنف وضع القائد يده فوق كتفه وهو يقول بحزن عميق : أوصيك بالصبر يا عمر خرج صوته مشروخا ممزقا من الحزن والغضب : احترقت أشجار الصبر, واستحالت رمادا تذروه الرياح.ولن تعود أبدا الا اذا ارتوت من دمائهم طال صمته, ثم رفع رأسه, كان وجهه كقطعة من لهب, وتساقطت حبات العرق على جبينه ووجهه برغم برودة الجو أطلت من عينيه نظرة ترجف أعتى القلوب صلابة وبحروف انطلقت من بين أسنانه كسهام نارية قال : سنشعل الأرض جحيما من تحت أقدامهم, لم يتركوا لنا خيارا سوى القتال حتى الشهادة, يجب أن نحرر أرضنا مهما كان الثمن أغمض عينيه بحزن بالغ وظهرت عاطفة جياشة فى وجهه وهو يكمل : وليرحم الله شهداءنا منذ هذه اللحظه ........... والمقاومة لا ينطفئ اوارها, سنوات عديدة لم تخمد فيها جذوة المقاومة لحظة واحدة قاموا خلالها بضربات موجعة للقوات الروسيه وكبدوا الروس خسائر فادحة كانت عملياتهم الحربية مضرب المثل فى الدقة والمهارة واعمال الخسائر الكبيرة فى قوات العدو كانوا حقا شوكة فى حلوقهم وكلما ظن الروس انهم قضوا على المجاهدين, واخمدوا ثورتهم وسيطروا على الشيشان خرجوا اليهم من عمق الجبال بعملية جديدة أشد وأنكى, تحطم الروح المعنوية للجنود فى صفوف الجيش الروسى استطاعوا أن يوقعوا بالروس شر هزيمة فى مواقع عديدة حتى أن الجنود الروس كانوا يفرون ويخلفون وراءهم أسلحتهم وعتادهم ليثبتوا من جديد أن المقاومة لازالت تسرى فى روح ذلك الشعب الأبى, وأن الغازى لا يمكنه أن يتمتع بالنصر لمدة طويلة، حتى ولو بقي قرونًا، وهذا ما عبَّر عنه الكاتب الأمريكي "سكوت روبنسون" الذي يكتب لصحيفة الكريستيان ساينس مونيتور- عندما قال:
"من السهل على روسيا أن تعلن انتصارها في الشيشان، لكن الواقع غير ذلك. وفي الوقت الذي يعلن فيه كبار القادة الروس أنه لم يَعُد هناك متمردون، توافينا الأخبار بعكس ذلك، فهناك اشتباكات وعمليات قتالية وضحايا روس"
هذه الدولة الصغيرة "المشاكسة" أثبتت دوما بما يتوافر لشعبها من قوة الإرادة ورصيد الإيمان أنها دولة عصية على التطويع , وأن شعبها تتأبى عليه نفسه أن يرضى بتذويب هويته وطمس حضارته الإسلامية العريقة
وكان الذئب واحدا من أشد القادة بأسا على الأعداء, وأشرسهم على الإطلاق, حتى أكسبته عملياته العسكرية البارعة شهرة واسعة بين شباب المقومة, وجعلت اسمه أمل لكل شاب يتمنى الإلتحاق بكتيبة الذئب
وكذلك اكتسب شهرة كبيرة بين صفوف الجنود الروس, الا أنها كانت شهرة عكسية تنبع من الكراهية الشديدة والخوف بلا حدود
فذكره فقط يعنى بأسا شديدا ودماء جنود وضباط مهدرة, وخسائر فادحة فى العدة والعتاد الروسى
مما جعلهم يطلبون رأسه وبشدة, ورصدت المكافآت الكبيرة لمن يدل على أية معلومات تقودهم الى الذئب, أو حتى تكشف عن شخصيتة الحقيقية الغامضة, التى لا يعرفون عنها شئ
وباءت كل محاولاتهم للوصول اليه بالفشل
وكلما حاولوا الوصول اليه, فاجأهم بعملية جديدة تهز صفوفهم وتقوض أحلامهم بالقضاء على الذئب, أو حتى التوصل الى أية معلومات تقود اليه
صار أسطورة وأمل وقدوة لكل شباب المجاهدين
صار رعب وخزى وهزيمة فى نفوس أعدائه,
صار علامة استفهام كبيرة بعد سؤال بسيط, لا يحتمل سوى اجابة بسيطة : من هو الذئب؟
هو ذلك الإنسان الوحيد الغريب المتألم, المحترق الفؤاد لفقد أغلى الأحباب
ذلك الإنسان الذى يحيا فقط ليصنع لنفسه موتة كريمة, ويبنى لنفسه قبرا فى أرض حرة
ذلك الإنسان الذى كل أمله فى الحياة أن ينال شهادة تحمله ليحيا مع من يحب فى عالم لايعرف الظلم أو الغدر أو الخيانة
ذلك الإنسان الذى لايرضى سوى بالإسلام دينا مهما بذل من تضحيات, ومهما فقد كل غال

--------------------------------------------------------------
ألقى عمر برأسه على الوسادة, خائر القوى بعد المجهود الذى بذله طوال اليوم, والسير الذى أضناه طوال الليل, حتى أنه لم يدخل الى غرفة آدم الا بعد أن صلى الفجر,
وظن أنه لن يستطيع النوم كعادته كل ليلة, ولكنه نام بالفعل

وكان نومه امتداد آخر لذكرياته وآلآمه ظل يسبح فيها حتى الصباح
وعندما بدأ يشعر بالحياة من حوله, أحس بشئ ما يستقر بين ذراعيه
شئ يمتلئ حياة, وتنبعث منه أنفاس تدفئ وجهه
انتفض مستيقظا, ورفع الغطاء عن رأسه ووجهه ليرى ذلك الشئ الملتصق به
تأمل ذلك الوجه الملائكى عبر شعاع الضوء القادم من النافذة, وتعجب كثيرا
كيف استطاع هذا الصغير أن يهرب من كاترين ويدخل الى غرفته دون أن يشعر به أحد, ويختبئ بين أحضانه حتى الصباح؟
انتبه على صوت طرقات متعجلة على باب الحجرة
خلص ذراعه برفق من تحت رأس الصغير النائم بعمق, وفتح الباب بسرعة ليجد أمامه كاترين بوجهها القلق

قالت بسرعة : عفوا اذ أيقظتك ولكن الصغير....
وضع سبابته على فمه مشيرا اليها لتخفض صوتها, ثم افسح الطريق وأشار بيده الى الصغير النائم فى الفراش
ولم يكن يتوقع أن تندفع كاترين الى الداخل بسرعة وتقف أمام الفراش تنظر الى الصغير, ثم انحنت تمسح على شعره بحنان وقالت بقلق : يا الهى, لقد أفزعنى حقا, تخيلت أنه رحل وحده
التفتت الى عمر الذى لايزال متجمدا عند الباب المفتوح
اتسعت ابتسامتها وهى تقول : انه يحبك, ولا يشعر بالأمان الا فى جوارك.
لك تأثير عجيب على كل من يقترب منك
كانت نظرات الإعجاب تشتد من عينيها ثم انقلب الإعجاب فجأة الى ضيق شديد واحباط عندما خفض بصره وأشاح بوجهه الى الحائط متجنبا النظر اليها
قال بصرامة وهو يهم بمغادرة الحجرة : استعدى,علينا الرحيل فى أسرع وقت
تناولوا افطارهم, ثم قاموا بتوديع الأسرة الطيبة الكريمة التى استقبلتهم
وشكرتهم كاترين بامتنان كبير لحسن ضيافتهم

ولم تنس الأم الطيبة أن تجهز لهم كمية من الطعام ليتزودوا بها فى رحلتهم
طوال الطريق وكاترين تحاول باستماته جذبه للحديث من جديد
الا أن صمته هذه المرة كان أشد وأقوى
وكلما اضطر للكلام كان يرد عليها باجابات مقتضبه للغاية, مما أورثها شعورا بأن سؤالها الأخير الذى سألته اياه هو السبب فى ذلك الجدار السميك الذى بناه حول نفسه
ترى هل تجاوزت منطقة محرمة لديه؟
كان السؤال يلح عليها بشدة. لكنها انتبهت فجأة عندما أوقف السيارة وتكلم أخيرا : سأتركك هنا, ادخلى هذه القريه التى أمامك, ستجدى هناك ممثلى اللجان الدولية والصليب الأحمر ومخيمات اللآجئين
نزلت من السيارة ببطء وقالت بصوت رقيق وهى تبتسم له : أشكرك لكل ما فعلته لأجلى
لم يرد عليها, بل لم يلتفت اليها
فانتقلت عيناها تلقائيا الى الصغير ومسحت على شعره وقالت بحنان وهى تنظر فى عينيه الوديعتين : كنت أتمنى أن أظل معك حتى تعود الى أهلك وأطمئن عليك
أنا متأكدة أنك ستكون فى أمان معه
قبلت رأس الصغير بحب وتنهدت بعمق وهى تقاوم دمعة تصر على مغادرة جفنيها : وداعا يامن لا أعرف اسمه
أتمنى حقا أن تعود لأهلك,
فليرعاك الله
التفتت الى الذئب قائلة : أتعلم أن هناك تشابه كبير بينكما, أنت أيضا لا أعرف اسمه
أدركت تماما ان سؤالها الضمنى لن يحظى باجابة سوى صمته المعتاد, لكنها لم تغضب من صمته هذه المرة, بل قالت بصدق :
سأنشر كل ما سمعته ورأيته ..أعدك أن يصل صوتكم الى العالم
قال ساخرا دون أن يلتفت اليها
: ان كان للعالم آذان . فليس لهم قلوب ..ورغم كل مايفعلوه بنا فسوف نعود وننتزع حريتنا بأنيابنا
ارتجف قلبها من كلماته وهى تراقبه وهو ينطلق بالسيارة بسرعة, ورحلت عيناها خلفه باعجاب كبير, ثم رفعت احدى حاجبيها لأعلى وهمست بابتسامة كبيرة : أنا واثقة من أننا سنلتقى ثانية دخلت القرية وظلت تبحث عن زملائها حتى وجدتهم واستقبلوها بفرحة وترحاب كبير بعد أن ظنوا أنها اختطفت وهب المصور المرافق لها من مكانه وهو يهتف بدهشة عارمة : كاترين, أين كنتى؟ وكيف وصلتى الى هنا؟ قالت وهى تنظر الى مدخل القرية هناك حيث رحل الذئب : لو قلت لك اننى جئت الى هنا فى رعاية ذئب ..ما صدقتنى فجأة دب فى أطرافها نشاط غريب وقالت بحماس وهى تتجه بسرعة الى الحمام : أحتاج الى أخذ حمام وتبديل ملابسى بسرعة, فعلى المغادرة الآن سألها المصور بدهشة عارمة : الى أين؟ هل نسيت أن علينا العودة الى الديار غدا؟ قالت بسرعة : لن أعود, فلم أكمل موضوعى بعد, عليك بتدبير سيارة لنا, سترافقنى الى المستشفى الجنوبى قال بذهول : ماذا؟ التفتت اليه والتمعت عيناها ببريق عجيب : حدسى يخبرنى أن قصة كبيرة بانتظارى هناك وصل الذئب الى المستشفى الجنوبى, وهناك قابل مدير المستشفى وحكى له قصة الصغير الذى لم يتكلم كلمة واحدة منذ التقاه وكان الطبيب رحيما ومتفهما الى أقصى مدى, فتطوع برعاية الطفل والبحث عن أهله, وأوصى احدى الممرضات باحتضانه ورعايته حتى يعثر على أهله شكره عمر كثيرا ورحل رحل دون أن يودع الصغير, أو حتى ينظر فى عينيه فلم يعد فى قلبه مكان لألم فراق جديد لم يعد هناك مكان لحزن, فقد طفح الكيل وزاد رحل وحيدا...........

فعليه العودة الى المجاهدين, الى حياة الجهاد والسلاح, تلك الحياة التى لايعرف غيرها من أعوام بعيدة
منذ أن فقد كل أحبته, ولم يعد له فى هذه الحياة رفيقا سوى سلاحه

منذ أن فقد بيته, وأصبحت كهوف الجبال بيتا له
رحل وحيدا, لايحمل معه شئ سوى ذكرياته,
وأمل............

أمل أن يعود يوما الى وطنه ليدفن هناك بين أهله وأحبته الذين رحلوا

هل يمكن أن يراها مرة أخرى قبل موته؟

وقف بجوار السيارة, ورفع هامته, وامتد بصره بعيدا عابرا الأميال والمسافات هناك, وكأنه يراها, وكأنه يشم عطرها الذى يدفئ قلبه رغم البعد

قد تمحى جروزني عن الخريطة كما يتمنون ويقولون

ولكن هل يمحى المعنى!

الرعب أو الرهب ..

تلك هى جروزنى

سميت باسم قيصر روسيا "إيفان الرهيب"
لم يكن يخطر بباله أن الاسم الذي اختاره لها كان ضده لا له ، فقد كانت دائماً شديدة عليهم سنة 1818 أراد الجنرال يرملوف أن يجعل من تلك المدينة أو الحصن آنذاك رمزاً للإرهاب أو الرعب الروسي, حتى لا تستيقظ جذوة الجهاد وروح النضال وحب الحرية في نفوس الشيشانيين على مر الأزمان ..
يرملوف, عمل الإستراتيجية ذلك الزمان ..
لكن إستراتيجيتهم الآن,هى محو جروزني عن الخريطة ..
ولكن...محو غروزني يعني تهجير آلاف المواطنين الشيشان المسلمين من ديارهم..
قسما من المهجرين سيذوبون في الشعب الروسي, وعندها, علينا كمسلمين محاربتهم انذاك لأنهم معتدون واعداء..
وقسماً منهم سيذوبون في بقية الشعوب يسهل السيطرة عليها .
إما بقية العظمى سيلجأون إلى الجبال ويعيشون مع البورز صديقهم الوفي (( البورز أي الذئب )) وعلى مر الأيام والأزمنة ستعاود تلك القبائل الجبلية الشرسة محاربتهم لبني جلدتهم الذين ذابوا في الشعب الروسي.
وهذا هو الجنون بعينه, ولكنه حدث!
حدث عبر مئات السنين من الحروب المتواصلة
يتمنى الروس محو جروزني في التاريخ
واذا اختفى الرمز هل سيختفي المعنى !
لقد انقلب المعنى إلى الضد
فكل لغات العالم تنطق بـ(جروزني)
أصبحت تلك الكلمة رمزا,ً
بمعادلة رياضية قلبت معادلات الأرقام في الحسابات العسكرية في العالم لصالح المناضلين ضد إرهاب واستعمار الدول
جروزني, أو كوكاسيا (بوابة آسيا) قلب القوقاز
فطالما اللغات تحمل المعاني, معيدة إلى الذاكرة جروزني .. المخيف , المرعب , الرهيب .. فلا تزال بوابة آسيا عصية على الروس والمقاومة الشيشانيّة ستستمرّ على الجبال وفي أيّ مكان طالما هناك شيشانيّ واحد ينبض قلبه إيمانًا ويدافع عن بلده وعن حريته،
وإنّ الله ناصر لعباده،
وسيأتي يوم يندم فيه الروس على غطرستهم. لم يدرى كم من الوقت ظل واقفا بجوار سيارته أمام المستشفى فقد جرفته ذكرياته وأفكاره بعيدا من جديد لكن يدا امتدت اليه لتعيده قسرا الى محيطه الذى لم يغادره سوى بعقله وأفكاره فقط أدرك أخيرا أنه لم يرحل بعد وعندما استدار ليرى صاحب اليد التى أعادته الى الواقع فوجئ بعينى الصغير تتطلعان اليه بتوسل ورغما عنه قرأ فيهما تلك الكلمة التى حاول كثيرا تجنبها (ابق معى) لم يعد الهروب يجدى وعليه المواجهة نزل على احدى ركبتيه واقترب من الصغير, وتطلع برهة الى عينيه لكنه هز رأسه وقال بحسم : لا أستطيع, يجب أن أعود الآن انت هنا فى أمان اطمئن, سيجدوا أهلك, وستعود الى أحضانهم من جديد هب من مكانه بسرعة واتجه الى السيارة وفتح بابها, وهم بالركوب حتى لا يرى دموع الصغير التى تجمعت بغزارة فى عينيه أبى.. تجمد تماما فى مكانه, وعصفت الدهشة بعقله وقلبه التفتت ببطء الى الصغير الذى بدأت دموعه فى الهطول, ليسمعه من جديد يردد باصرار : أنت أبى لم يدرى مايمكن أن يقوله, ولا كيف يتصرف, فظل على صمته للحظات, حتى نطق أخيرا : أنا...لست..... انعقد لسانه وعجز عن النطق, واتسعت عيناه بشدة, وارتج قلبه بعنف, حينما أخرج الصغير من جيبه شئ يعرفه جيدا حافظة سوداء صغيرة حافظة زهرة ومن داخل الحافظة أخرج صورة ضوئية أعادت اليه ذكرياته دفعة واحدة صورته مع زهرة .................................................


حمله فوق كتفه وانطلق يجرى به بعيدا كان الخوف يعبث بقلبه لقد عادت اليه الآلام من جديد, وكأنما لم تمر السنون, وكأن الزمن قد توقف عند تلك اللحظة الأليمة لحظة موت مالك أول ألم شعر به فى حياته, وأقسى ألم وبرغم سيل الآلام التى عاناها عبر حياته القصيرة الا أن المرة الأولى تبقى دائما هى الأشد والأقسى على النفس والروح ما أشبه اليوم بالبارحة أعادت اصابة جوهر الى عقله حادثة استشهاد مالك, وكأنما حدثت الآن أخذ يسترجع ماحدث لقد تم الهجوم على موقع كتيبته ومحاصرتها فوق الجبل لكن جنوده المجاهدين قاتلوا بشراسة واستبسال لفك الحصار ونجحوا أخيرا فى دحر الروس الذين تراجعوا تحت وطأة نيران المجاهدين وتفقد الذئب رجاله, ليجد جوهر مسجى على الأرض وصدره ينزف بغزارة, وأحمد يحتضن رأسه, ويضع يده على صدره محاولا ايقاف النزيف نزل على احدى ركبتيه وقال لأحمد بقلق : كيف حاله؟ قال أحمد والخوف يملأ عينيه : اصابته شديدة نظر الذئب فى وجه جوهر الشاحب, وعقد حاجبيه بقلق أحمد : علينا نقله الى المستشفى على الفور بدأ الشرود يحتل عقله وهو يستمع الى جوهر بصوته الواهن: لن يجدى, لن يسعفكم الوقت بعد أن دمروا السيارة, والطريق الى المستشفى طويل لدى طريق أقرب بكثير احتضن السماء بعينيه وقال بابتسامة شاحبة : طريق الجنة اعتصر الذئب عينيه بقوة, وهز رأسه, وكأنما يريد ابعاد صورة ما تصر احتلالها فتح عينيه ليجد أمامه وجه آخر, وجه يألفه ويحبه كثيرا أشاح بوجهه وأغلق عينيه بألم, وهو يحاول باستماته أن يبعد عن عينيه ملامح مالك التى احتلت قسرا وجه جوهر مما جعل جوهر يقول بحزن : هل ملامحى قاسية الى هذه الدرجة؟ رغم كل شئ, كان العمل فى فريقك هو أفضل شئ حدث لى على الإطلاق لقد كانت الأيام التى قضيتها بصحبتك من أفضل الأيام التى قضيتها فى حياتى لقد علمتنى الكثير .... كنت أعلم أنك فى النهاية ستقودنى الى الجنة عجز عمر عن تحمل كلمة اخرى أخذ نفس عميق, وهز رأسه بقوة, وأجبر نفسه على النظر فى وجه جوهر, وحاول أقصى جهده استعادة ملامحه الأصلية فجأة, أطبق بيده على ملابس جوهر وهو يقول بغضب : لازال الوقت مبكرا يا فتى, أتظن أن الوصول الى الجنة بتلك السهولة؟ عليك أولا أن تدفع مهرها رفعه عمر بذراعه وحمله فوق كتفه وجوهر يتأوه هتف أحمد بدهشة : الى أين تأخذه؟ الطريق طويل, لن تقدر قال بعزم : فعلتها من قبل والآن, على أن أحاول من جديد ..............................................


وضع عمر جوهر برفق على المحفة الطبية ذات العجلات, ووقف يراقبه وهو يتجه الى حجرة العمليات, ولكنه مرة أخرى عجز عن النظر فى وجهه عندما تذكر مالك, فابتعد متألما وألقى ببصره الى نافذة قريبة

وبعد فترة, شعر بيد قوية تربت على كتفه, التفت ببطءالى القائد الكبير الذى قال باعجاب: تبهرنى دائما بأفعالك
لقد نجحت فى انقاذ حياته

أغمض عينيه وقال براحة : حمدا لله

وقف القائد بجواره يتطلع الى الجبال البعيدة عبر النافذة وهو يقول : ما رأيك فى هذا الشاب ؟

صمت الذئب قليلا ثم قال : يشبه شخصا كنت أعرفه

ابتسم القائد وقال : لهذا اخترته من بين 50 شابا وأرسلته اليك , كنت أعلم مدى احتياجك لإنسان مثله

صمت القائد قليلا ثم قال : عمر..لم لا تعود الى بيتك؟
أستطيع تدبير هوية جديدة لك, كما أن الروس لا يعرفون شخصيتك الحقيقية

أطرق عمر بحزن ثم رفع رأسه وقال بأسى : ولمن أعود ؟ لقد رحل الأحبة جميعا

القائد بتعاطف : أتخشى من ألم الذكريات؟

تنهد بعمق وقال بحنان أبوى : لم أخش عليك يوما من الموت, ولا من الأسر وما يمكن أن يفعله الروس بك ..
ولكن كل ما أخشاه أن تسحق الأحزان روحك, سيظل الحزن يأكل من قلبك وشبابك حتى يفنيك بأسرع مما تفعل رصاصات الأعداء
انظر لنفسك يا بنى, انك لم تغادر العشرينات بعد

أغمض عمر عينيه بألم وقال بصوت يقطر حزنا : لقد كانت تحمل طفلى الأول, لكم تمنيت أن أحمله, أضمه الى قلبى, أسمع بكاءه, ألمس وجهه الصغير وأصابعه الدقيقه

القائد باشفاق : هون على نفسك يا بنى فلست وحدك المكلوم

أشار الى الجبال البعيدة وقال : كل من يحيا على هذه الأرض, وفى تلك الجبال, مصاب بجراح قد لا تندمل مدى الحياة
لكن الحياة لابد وأن تستمر ولابد أن نحياها طالما كتب الله لنا الحياة

عمر بأسى: لكم دعوت الله أن أموت شهيدا لألتقى بأحبتى .. انتظرت طويلا أن يأتى الموت لكنه لم يأتى

القائد بعطف : لكن الله كتب لك الحياة فيجب أن تخضع لمشيئته

صمت قليلا ثم قال : عمر .. لقد رزقك الله الصبر ولكنى أرى أنك بحاجة الى أن ترتقى الى درجة أعلى ..
أنت بحاجة الى الرضا ..فارض يابنى بما قسمه الله لك وعش حياتك بما يرضى الله حتى يحين أجلك الذى كتبه الله لك ..
تزوج واعمل وعمر هذه الأرض
فلا يعقل أن نتركها اليهم ليعمروها ونظل نحيا فى الجبال
أما ان كنتعاجز عن تحمل الذكريات الأليمه, فلن أكلفك مالاتطيق
ولكن لدى حل آخر..

صمت قليلا ثم قال : ما رأيك أن تعود الى مصر؟

نظر اليه باستنكار وقال بألم : وحدى؟

القائد : نعم, ربما يشفى جراحك هواءها ونسيمها وذكريات طفولتك وصباك , وربما تجد هناك من تتزوجها وتستطيع أن تخفف من أحزانك

هز عمر رأسه نفيا ببطء, ومد عينيه الى قمم الجبال البعيدة : لم يعد بامكانى أن أعود الى مصر..
أصبحت جزءا من هذه الأرض وقطعة من هذه الجبال , كل أحبتى هنا .ان كل ما أتمناه الآن أن أموت وأدفن بجوارهم حتى لا أستوحش فى حياتى وفى قبرى أيضا

زفر القائد بأسى وقال باشفاق : ما رأيك فى رحلة أخرى؟ زيارة الى بيت الله الحرام؟
التفت عمر اليه وظهر فى عينيه الحنين وقال : نعم ..نعم ..أتوق الى هذه الزيارة بكل جوارحى
قال بحزن : لكم تمنيت أن تكون زهرة معى فى هذه الرحلة, لكم تمنت أن ترى بيت الله الحرام بعينيها
القائد : هون على نفسك يا عمر ..فإنها شهيده
أغلق عمر عينيه بقوة وقال : ولكنى أشعر بها حولى فى كل مكان, لاترى عينى سواها, ولاتسمع أذنى الا صوتها
القائد بتعاطف : ارض يابنى, ارض بقضاء الله حتى يرضيك الله
سأرحل الآن لأدبر لك الرحلة التى اتفقنا عليها, وعندما تعود, سيكون لنا حديث آخر, ربما تصبح أكثر قدرة على تقبل فكرة زوجة جديدة وحياة جديدة
همس بحنين جارف وهو يعصر عينيه ألما : ولكن قلبى لا يسع سوى زهرة واحدة
سمع صوتها يشدو فى قلبه : وستظل تحيا فى قلبك ترتوى من حبك لهذه الأرض
تنهد بعمق وقال : آه يا أحبتى ..كم أشتاق اليكم
رفع عينيه الى السماء وقال برجاء : رب لا تذرنى فردا وأنت خير الوارثين

--------------------------------------------------------------

لأول مرة منذ زمن بعيد تطل أنهارالرضا من عينيه وتنفرج أساريره بابتسامة حانية تمتلئ حبا وشوقا لم يصدق أبدا أن بامكانه أن يستعيد ذلك الشعور الرائع الذى فقده من سنين طويلة, حمله وضمه الى صدره بذراعيه, كما لو كان يتمنى أن يذوب فى دمائه ليملأ قلبه أبقى عينيه مغمضتين بقوة وكأنما يتمنى أن يدوم ذلك الشعور للأبد ملأ صدره بتلك الرائحة التى افتقدها طويلا, رائحة الحياة لكم عاش طويلا ميت بين الأحياء, أو حى بين الأموات حتى أتى ذلك الصغير الجميل ليعيد اليه كل المشاعر التى افتقدها طويلا وكأنما تجمع فيه كل من أحبهم فى حياته
حب زهرة,
حنان مالك,
عطف محمد
احتضن طفله الذى لم يراه أبدابقوة كبيرة,
وكأنما يحتضنهم جميعا,
وهمس فى أذنه بشوق عارم : مالك
أخذ يمسح على ظهره وشعره
أبعد رأسه قليلا عنه وأخذ يتحسس ملامحه الصغيرة بأنامله, وكأنما يريد أن يحفظها فى قلبه, ثم أمسك بيده وانهال يقبل أصابع يديه الصغيرة بحب طاغى
انطلق فيض الحب والحنان المكبوت طويلا فى أعماقه,
انطلق سيلا يحطم كل السدود ليتحول الى أنهار من القبلات أغرق بها صغيره الذى أعاد الى قلبه دماء الحياة لينبض بالحب من جديد,
وأشرقت ابتسامته من جديد لتذيب جليد حرمان السنوات الطويلة
......................................................
سأعود من أجلها..
رفعت كاترين عينيها عن الصورة الفوتوغرافية الصغيرة التى تحملها بين أصابعها, وأخذت تتأمل الذئب بذهول
كان يجلس الى منضدة مستندا بمرفقيه اليها ورأسه بين كفيه, وحول المنضدة جلست هى والقائد وسيدة أخرى لا تعرفها,
أما الصغير, فقد كان نائما فى الدور العلوى
أرادت كاترين أن ترد عليه, كانت تحمل الكثير والكثير من الكلمات التى يمكن أن تقال
لكنها هربت كلها من رأسها عندما فاجأها بعد الصمت الطويل بكلماته الممتلئة باصرار وعناد لم تقابل مثله فى حياتها
أدارت عينيها فى وجوه الجميع علها تجد من يقول كلمة تثنيه عن عزمه
لكنها أدركت أن حالة الذهول التى أصابتها قد أصابت الجميع أيضا
شخص واحد فقط من الجلوس استطاع أن يكسر حالة الصمت التى طغت على كل من فى الحجرة
وبعينين سكنتهما الدموع فلا هى عادت من حيث أتت, ولا هى غادرت الى خديها قالت أم مالك وزهرة بصوت يقطر بالألم : لم تفعل مافعلته الا لأنها كانت تريد انقاذك
بمجرد أن وصلنا نبأ اصابتك ونقلك الى مستشفى فى جروزنى, لم تستطع البقاء ليلة واحدة, فاصطحبت مالك وغادرت الى جروزنى, وأصر خالد على مرافقتها حتى لاتكون وحيدة

تنهدت بألم وهى تكمل : كان الأمر كله مجرد خدعة لإستدراجها الى جروزنى لتقع فى قبضتهم
لقد جاءت الطعنة من شخص شديد الثقة, لم نكن ندرى أنهم استطاعوا شراءه
لا أحد يمكن أن يتوقع ابدا أنه خائن
ضرب المنضدة بقبضته بغيظ شديد وهب واقفا, ثم استدار الى النافذة ليخفى الغضب الرهيب الذى غزا ملامحه
قال بعد صمت : تلك هى معركتنا الحقيقية
مع الخونة والعملاء
لن تدرى أبدا من أين تأتيك الطعنه
استند بكفيه الى النافذة وطال صمته, وخيم الصمت على الجميع,
لقد نجت زوجته من موت محقق عندما فاجأها المخاض بعد تركه لها بسويعات قليلة
تخلفت عن حافلة المهجرين التى كان يجب أن تركبها
أنقذها مالك الصغير من هلاك محقق
وفى نفس اللحظة التى عرف فيها بنجاتها, صدمته الحقيقة المؤلمة
فهى الآن أسيرة بين أيديهم, بين أيدى الأعداء
تنتظر أن يبادلوها به
فاما حياته ....أو حياتها
نطق أخيرا بصوت ينتفض غضبا : لم أكن أتوقع أن هناك ما هو أشد وأقسى على النفس من الوحدة وفقد الأحبة
جحيم الإنتظار وأن تكون سببا فى ايذاء أقرب الناس اليك
سأعود من أجلها مهما كان الثمن

هتفت كاترين بعد أن عجزت عن الصمت : هل جننت؟ أتريد أن تحقق لهم ما يريدونه؟
لن يتركوك حيا أبدا, اذا ما وضعوا يدهم عليك
يمكننا ان ننقذها بطريقة أخرى
أستطيع أن أحرض عليهم الصليب الأحمر, ومنظمات حقوق الإنسان, بامكانهم التدخل و.......
التفتت اليها عمر ببطء وهو يقول : يبدو أنك لم تدركى بعد طبيعة الصراع الروسى الشيشانى
استطاعت روسيا اقناع العالم أن القضية هى شأن روسى داخلى, وأن الشيشانيون ماهم الا مجموعة من المجرمين الخارجين على القانون الروسى
هتفت بغضب : مابك؟ أتلك هى نظرتك للأمور
قال بأسى : بل نظرة العالم الينا والى قضيتنا
لن يتدخل أحد من أجل مجموعة ينظرون اليها كارهابيين, خاصة فى ظل التحالف العالمى الذى تقوده أمريكا ضد الإرهاب
وطالما أننا مسلمون, فنحن اذا........ مدانون
هتفت كاترين بعناد : لا يمكن أن تيأس الآن, هناك الكثيرين يؤمنون بعدالة قضيتكم ويتعاطفون معكم
قال : ولكنهم للأسف, ليسوا فى موقع سلطة, أو بيدهم قوة يمكن أن تساعدنا
ليس لنا سوى ثقتنا بالله, ومواصلة المقاومة والصمود حتى نحرر أرضنا ولو بعد آلاف السنين
هتفت كاترين : وماذا عن صغيرك؟ الى من تتركه, وماذا سيكون مصيره بعد رحيلك ورحيل أمه؟
قال ببطء : له الله.. ثم جدته وخالته, وكل الشيشانيين, هم أهله
كاترين : اذا فلقد اخترت .......حياتها مقابل حياتك
نظر اليها وقال : بل حياتى مقابل حريتها
عقدت حاجبيها بدهشة وتساءلت بشك : تقصد زوجتك؟
أخيرا تحدث القائد قائلا بحزم : ومن أجل هذا فأنا أمنعك من العودة
لا يمكننى التضحية بقائد مثلك
المقاومة تحتاجك بشدة,
نستطيع أن نتدبر الأمر,
سنبحث عن طريقة لإخراجها من هناك, ولكن دون التضحية بك
قال بهدوء : المقاومة ستستمر بى أو بدونى,
من مئات السنين, وطوال حروبنا معهم لم تتوقف المقاومة أبدا لموت واحد منها
فالمقاومة ليست فردا, بل هى الشعب بأكمله
التفت مجددا الى النافذة, وراح يتأمل الجبال البعيدة والوديان والأشجار وهو يقول بشرود : وحتى لو أفنوا شعبنا, ستحاربهم الجبال والسهول والأشجار والجليد
ستحاربهم الأرض والسماء
رحم تلك الجبال لن ينضب أبدا عن اخراج المجاهدين
أعلم أنها هناك, تنتظرنى وواجبى يحتم على أن أعود اليها
تأمله الجميع بصمت ولم يجروء أحدهم على قول أى شئ
ومرة ثانية ظل عقل كاترين يردد نفس السؤال دون أن يتحرك لسانها : أزوجته يقصد؟

>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>

هل ستعود؟ قالها الصغير ودموعه تطل بقوة من بين جفنيه وهو يتشبث بملابس عمر الذى جلس على احدى ركبتيه ليكون قريبا من صغيره سقط عمر فى بحور من الحيرة وهو ينظر فى عينى مالك, ولم يجد له نجاة سوى صمته ولكن فى النهاية, كان مضطرا للإجابة على السؤال المؤلم, فهز رأسه ببطء وقال : لا أدرى! ولكن, يوما ما عندما تصبح ذئبـ..., أعنى رجلا عليك أن تقطع هذا الطريق, وتعبر تلك الجبال لتعود الى هناك حمله بين ذراعيه ونهض من الأرض ونظر بعيد وهو يمد ذراعه ليشير باصبعه بامتداد البصر وعينا مالك تتابع اصبعه وترحل بعيدا الى قمم الجبال, وصوت أبيه يدوى فى أذنيه : هناك, أصلك وجذورك, واليها يجب أن تعود يوما ما تلاقت عيونهما فى صمت, وعجز عمر مجددا عن احتمال نظرات الصغير, فاحتضنه بشوق عارم وحنان فياض, وامتلئت عيناه بالدموع, لكنها ظلت حبيسة جفنيه وتعلق الصغير برقبته بكل قواه, لكن عمر انتزعه من أحضانه بقسوة وأنزله رغما عنه, واخذ نفس عميق وفرد قامته بقوة لينتصر فى النهاية على دموعه, ويدفنها فى صدره أعطاه ظهره حتى لا يضعف من جديد, وخرج من الباب وهو يسير بخطوات سريعة قويه تعصر الثلج تحتها مخلفة أثرا بارزا لآثار قدميه أخيرا ترك دموعه تتحرر من صدره عندما تأكد أنه أصبح وحيدا فأغرقت وجهه وكبده يتفتت ألما لفراق صغيره, حبة قلبه بدأت خطواته تتباطأ, وصورة مالك تملأ عينيه وقلبه, وهو يتذكر دقائق ملامحه, وأصابعه الصغيرة, وأنفاسه الدافئة وهى تعانق وجهه, وذراعيه حول عنقه تمنى لو يروى قلبه بضمة أخيرة من ذلك الملاك المتدفق بالحنان توقفت قدماه عن السير رغما عنه, وكادت قواه تخور ويلتفت للخلف, أو يعود جريا الى صغيره لكنه كافح باستماته ليتغلب على ضعفه, وأعتصر عينيه ليفرغ آخر قطرة من دموعه عقد حاجبيه, واستنشق الهواء البارد بقوة, وهو يصطدم بوجهه ولم يفتح عينيه الا عندما جفت دموعه تماما وحل محل الضعف, نظرة تمتلئ عزما واصرارا وبدأت أصوات كثيرة تأتيه من كل مكان, أصوات يعرفها جيدا
عندما يستباح الوطن ..يستباح كل شئ .وتصبح الدنيا سوق كبير للنخاسه فيه الإنسان أرخص من تراب الأرض




أرضنا هاهنا, وسنظل هنا حتى ندفن فيها, لن نتركها لهم




كلنا سنموت يا صديقى. المهم هو كيف سنموت؟
لازالت الشيشان صامدة, تقدم أبناءها ثمنا لدينها وحريتها منذ مئات السنين, وحتى الآن.





هدفنا ليس الإنتقام ..
الحرية يا ولدى ..اننا لا نسعى الى الإنتقام ..بل نسعى الى الحرية
وهذا هو مالايريدونه لنا






انه حلم تتضاءل بجانبه كل الأحلام
حلمى أن أموت شهيدا
عمر .... نحن نؤمن تماما أننا سننتصر .. حتى لو لم نر النصر بأعيننا فسيراه من بعدنا...

لكننا فى النهايه سننتصر احتفظ بصوت زهرة وكلماتها فى أذنيه وقلبه, وانتفضت عروقه بالإصرار وتضاءلت رغبته فى الإلتفات للخلف حتى اختفت تماما سار بخطوات أقوى وأسرع, يدوس الثلج مخلفا أثرا أعمق فيه, وعيناه تنظران للأمام, تتطلعان للعودة اليها أما الصغير, فقد خرج من الباب وعيناه متعلقة بآثار أقدام أبيه الغائرة فى الثلج, وتتبعت عيناه خطواته حتى توقفت عند نقطة سوداء بعيدة ظل متشبثا بتلك النقطة السوداء الصغيرة التى توقفت وسط لوحة كبيرة بيضاء رسمها الثلج الكثيف, حتى تحركت أخيرا وتحركت معها عيناه, وقلبه يسافر خلف الجبال والسهول البعيدة يمضى الى حيث يرحل أباه،وبدأ لسانه يتحرك وهو يهمس بصوت خفيض يعلو بالتدريج ليبدو واضحا فى حروف كلماته انه ينشد أغنية،ويعلو صوته وكأنما تردد معه الجبال





في ليلة مولد الذئب خرجنا إلي الدنـــــيا

وعند زئير الأسد في الصباح سمونا بأسمائــنا

وفي أعشاش النسور أرضعتنا أمـــهاتنــا

ومنذ طفولتنا علمنا آباؤنا فنون الفروسيــــة

والتنقل بخفة الطير في جبال بلادنا الوعـــرة

لا إله إلا الله
لهذه الأمة " الإسلامية " ولهذا الوطن ولدتنا أمهاتنا
ووقفنا دائماً شجعانا نلبي نداء الأمــــة والوطن
لا إله إلا الله

جبالنا المكــــسوة بحجر الصـــــوان
عندما يدوي في أرجائها رصاص الحــــرب
نقف بكرامة وشرف علي مـــر الســــنين
نتحدي الأعداء مهمــــا كانت الصعــــاب
وبلادنا عــــندما تنفجر بالبـــــــارود
من المــحال أن ندفن فيها إلا بشرف وكرامـــة
لا إله إلا الله
لن نســتكين أو نخضـــع لأحـــــد إلا لله
فإنها إحـــدى الحسـنيين نفــــوز بــــها
الشهــــــــــــادة أو النصـــــــر
لا إله إلا الله
جراحنا تضـمدها أمــــــهاتنا وأخواتنا بذكر الله
ونظرات الفــــخر في عيونــهن تثير فينا مشاعر
القــــــــــــوة والتحـــــــــدي
لا إله إلا الله
إذا حالـــــوا تجويعنا سنأكل جذور الأشجار
وإذا منع عنا الماء سنشرب نــــــدي النبات
فنحن في ليلة مولد الذئب خرجــــــنا للدنيا
ونحن دائماً سنبقي مطيـــــــعين لله والوطن
وهـــــــذه الأمـــــــــــــة
لا إله إلا الله ...

النشيد الوطنى للشيشان
........................................................


هناك تعليقان (2):

  1. السلام عليكم أختى الحبيبه دودى

    القصه ما شاء الله رائعه ..وكم أبكانى المشهد الاخير ...بجد مبدع من كتب حروف هذه القصه ...

    انتِ عارفه شخصية عمر الذئب المجاهد اللى مجنن الروس فكرتنى ((بمحمد الضيف))القائد العام لكتائب عز الدين القسام كم حاول اليهود من اغتياله ولم يستطيعوا وهو من اول المطلوبين لديهم ..فهو ايضا نعم القائد الفذ العبقرى الذى أذاق اليهود الويلات والويلات حفظه الله ورعاه ...


    بوركتى اختى الحبيبه على النقل ..وجزاكِ عنى خير الجزاء ..

    بالنسبه للأمتحانات وفقكِ الله ويسر لك امور امتحانك وختم لكِ بالنجاح والتوفق ..

    دمتم فى طاعة الله ..

    ردحذف
  2. بجد كلمات مؤثرة جداااااااا
    وربنا باذن الله يرجع كل حق لأصحابه ولو بعد حين وينتقم من الظلمة.
    تحياتى وربنا يوفقك فى امتحاناتك باذن الله

    ردحذف

قال تعالى (( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))

لنحيا بالقرآن..

TvQuran